من غير المؤكد ان الموعد الثاني للاستشارات النيابية الملزمة، الاثنين المقبل، سيكون نهائياً. وقد يكون مرشحاً لتأجيل آخر، لن يقل ضرراً عن التأجيل الاول. ما حدث انطلاقاً من دار الفتوى الاحد - برضاها او من دونه او بموافقتها او من دونه - وضع الاستحقاق الحكومي، كما الافرقاء المعنيين به، امام معطيات جديدة تحتاج الى بعض الوقت لمقاربة تداعياتها والتحوط للاشارات السلبية التي نجمت عنها:1 - الطريقة الغامضة، رغم وضوح ما حدث، لاعلان سمير الخطيب عزوفه عن ترؤس الحكومة الجديدة. حمل الرجل في طريقه الى دار الفتوى، ثم الى بيت الوسط، بيانين كُتبا سلفاً، وربما يكونان أُمليا عليه. احدهما في جيب، والآخر في جيب آخر. لم يكن السيناريو المعدّ للعزوف متقناً على النحو المطلوب. كشف الخطيب ان المفتي الشيخ عبداللطيف دريان أخطره بالاجماع السنّي على الرئيس سعد الحريري، من دون ان يكون صدر عن المرجعية الدينية السنّية الاولى، قبل الاحد، اي موقف رسمي علني يشي بهذا الخيار، ومن غير ان يعقب استقبال الخطيب اي بيان يؤكد الخيار نفسه. تالياً دخل الخطيب الى دار الفتوى ببيان معدّ سلفاً بما يُفترض انه سيسمعه من المفتي الذي نأى في الفترة الاخيرة، منذ استقالة الحريري، بنفسه عن الاحداث المتلاحقة، سوى اصراره على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء والكرامة السياسية للطائفة والحرص على اتفاق الطائف.

منذ 15 تشرين الثاني التواصل مقطوع بين الحريري ورؤساء الحكومات السابقين(هيثم الموسوي)

2 - بانسحاب الخطيب لم يعد ثمة مرشح معلن لتأليف الحكومة. لم يقل الحريري بعد انه تراجع عن اعتذاره في 26 تشرين الثاني، ولم يقل انه عاد الى ترشيح نفسه ما دام اعتذاره الرسمي لا يزال نافذاً. تالياً ليس ثمة مرشحون آخرون في ظل ما فعله الحريري منذ استقالته، بأن وضع نفسه في قفص وألقى المفتاح بعيداً منه. يريد العودة الى السرايا، من غير ان يتمكن من فرض هذه العودة. بالتأكيد في وسعه، بأقل جهد ممكن، ان يمسي رئيساً مكلفاً ما دام متيقناً، قبلاً والآن، من ان الثنائي الشيعي يريده ورئيس الجمهورية لا يسعى الى اقصائه. بيد ان نجاحه في الحصول على تكليفه - بالاكثرية المحسوبة واللائقة التي يحتاج اليها ويوفرها له فريق الغالبية النيابية - لا يفضي حكماً الى تأليفه الحكومة التي يريد، ولا الى فرض شروطه فيها.
نجاحه في اتلاف فرص ثلاثة مرشحين محتملين، هم الوزيران السابقان محمد الصفدي وبهيج طبارة والخطيب، ومن ثم الحؤول دون وصولهم الى التكليف، يكسبه نصف المعركة، وهو ان يعود رئيساً مكلفاً فحسب. يعرف أكثر من سواه ان تأليف الحكومة مرتبط بموازين قوى تنتظم اللعبة السياسية من خلالها، وبلا إخلال، منذ عام 2008 اكثر منها ما توفره له الصلاحية المنصوص عليها في المادتين 53 و64 من الدستور.
3 - ليست المرة الاولى يُستعان بدار الفتوى في توقيت غير صائب، ويحملونها على رسم خطوط حمر ليست في صلب مرجعيتها الدينية كما دورها الوطني. في 6 كانون 2006 رسم المفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني خطاً احمر من حول رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة عندما أمّ المصلين في السرايا، في سابقة لا نظير لها قبلاً، لم تحمِ بعد سنتين السنيورة ولا حكومته من السقوط. رسم المفتي الحالي دريان خطاً احمر ثانياً حول السنيورة في 4 آذار 2019 عندما طُرح مصير 11 مليار دولار فقدت بين عامي 2006 و2008 ابان حكومته نفسها. ثم كان الخط الاحمر الثالث الاحد بالاعلان ان الطائفة السنّية ترشّح الحريري لرئاسة الحكومة، في وقت لم يكن رئيس الجمهورية ولا الثنائي الشيعي وراء إبعاده عنها، بل هو اختار استقالة حكومته رغم نصحهما اياه بتفادي هذه الخطوة، ثم اعتذر عن عدم تأليف حكومة جديدة بعدما رشح تباعاً ثلاثة اسماء سنّية لترؤسها. تحدث الى الثلاثة تباعاً، ووعدهم بدعمهم وبالحصول لهم على تأييد المفتي والرؤساء السابقين، ناهيك بمشاركته في حكومة لا يرئسها.
في آخر اجتماع ضم الحريري الى الرؤساء السابقين في 15 تشرين الثاني، غداة اجتماعه بالثنائي الشيعي واتفاقه معه على ترشيح الصفدي، اجمعوا على رفض ترشيح الصفدي وتمسكوا به هو بالذات. مذذاك لم يحصل اي لقاء بينه وبين الرؤساء الثلاثة، ناظراً اليهم بريبة. على مرّ طرح الصفدي وطبارة والخطيب تمسكوا بترشيح الحريري، فيما راح هو يتنصل من هذا الطلب ويرفضه، الى ان اصدر - حسماً للسجال - بيان اعتذاره قاطعاً به الشك باليقين.
عندما اصدر الرؤساء الثلاثة بيانهم الاخير في 4 كانون الاول لم يسبقه تنسيق معه. وعلى مر اسبوعين من تداول اسم الخطيب لم يلجأ الحريري الى دار الفتوى التي لم تبدِ مذذاك اي اعتراض علني على الرجل، ولا احتاجت الى مقابلته، ولا الى الطلب منه الانسحاب، الى ان اضحى تكليفه حتمياً في الساعات الاربع والعشرين التي تسبق الاستشارات النيابية الملزمة.
تكليف الحريري قد يحصل، أما التأليف فشأن آخر


لم يكن الحريري في حاجة الى تدخّل دار الفتوى لتعزيز حظوظ تكليفه ترؤس الحكومة، في وقت بدا حاجة ملحة لرئيس الجمهورية والثنائي الشيعي، قبل ان يذهب في تدلعه الى الاصرار على اطلاق يده في تأليف حكومة تكنوقراط، كان يعرف سلفاً ان الرئيس نبيه بري وحزب الله لن يوافقا عليها، ولا القبول بإخراج حزب الله منها.
لعل الاكثر مثاراً للاستغراب ان رفض الحريري ترؤسه حكومة تكنو - سياسية اقترن بموافقته على دعم مرشح آخر لرئاستها هو الخطيب، بالمواصفات نفسها التي رفضها، وهي حكومة تكنو - سياسية. لعل الدليل الاسطع على تناقض هذا الموقف رفض الحريري توزير محمد فنيش في حكومة يرئسها، فيما سلّم به في حكومة يشارك فيها ويتولى توفير الغطاء السنّي لها.
في احسن الاحوال قد تنتهي هذه المناورة بتكليف الحريري. وهو افضل مكسب - وقد يكون الوحيد - رغم ان شرطه الرئيسي حصوله على الغالبية النيابية التي يمثلها الثنائي الشيعي وحلفاؤه والتيار الوطني الحر وحلفاؤه. اما التأليف فشأن آخر، لا يملكه الرئيس المكلف وحده.