حين تخلى حزب الله عن حكومة الوفاق الوطني، عام 2011 ، قرأ الوزير جبران باسيل بالنيابة عن حلفائه في قوى 8 آذار، بيان استقالة الوزراء العشرة من حكومة الرئيس سعد الحريري أثناء وجوده في واشنطن. كان الطرفان، الحزب والعماد ميشال عون، على موقف واحد حيال المحكمة الدولية «وخضوع الطرف الآخر للضغوط الأميركية»وظروف عمل الحكومة في عهد الرئيس ميشال سليمان.منذ التسوية الرئاسية تظهر للمرة الأولى وجهتا نظر مختلفتان. فرغم تنسيق الطرفين مواقفهما الاستراتيجية والمحلية، إلا أن ثمة تمايزاً برز مع انفجار التحركات الشعبية، على مستوى أسلوب معالجة الأزمة، وطريقة الخروج منها. منذ استقالة الحريري، كأولى تداعيات الأزمة، عبّر رئيس الجمهورية والحزب عن استيائهما من المنحى الذي اعتمده رئيس الحكومة، لكنّ عون انحاز إلى اختيار بديل فوري منه. في الأيام اللاحقة تطور الموقف الرئاسي منه حتى شكلاً، في طريقة قبول الاستقالة والتريث في تكليفه تصريف الأعمال ولقائهما الجافّ في عيد الاستقلال، ومن ثم الكلام عن بدلاء له أكثر من مرة. موقف عون من الحريري انسحب حتى على نظرته إلى شكل الحكومة، لأن رئيس الجمهورية ميّال إلى حكومة اللون الواحد، ويعتبر أنها مخرج للأزمة التي وضع فيها الحريري العهد. وهذه الحكومة معطوفة على اختيار شخصية غير الحريري وتمثل نتائج الانتخابات فعلياً والخيار السياسي للعهد (من هنا عدم حماسه لاختيار المهندس سمير الخطيب) مهما كانت هوية الوزراء فيها، مزيج من سياسيين وتكنوقراط، وقادرة أن تعبر نصف الولاية الثانية، من دون ضغوط وابتزاز شريك التسوية، الذي يمكنه مع خصوم العهد الانتقال إلى صفوف المعارضة.
ميل عون إلى هذا الخيار، يقابله من دون أي لبس، حرص حزب الله على حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها كل الأطراف من دون استثناء. ظروف عام 2011، لا يمكن أن تتكرر اليوم، ليس بسبب قلقه وسعيه إلى تفادي الصراع السني الشيعي فحسب، إنما أيضاً لأن الحزب يرى أن أي حكومة من لون واحد، في ظل الضغوط الأميركية على لبنان، ستتضاعف مع خروج الحريري ومع حكومة طرف واحد، وخصوصاً أن الموقف الدولي من العهد معروف. وهذا لا يصبّ في مصلحة أي طرف حالياً. إضافة إلى أن الحريري لم يخذل الحزب في مساره الأخير، لا بل كان أكثر طواعية وليونة من أي شخصية أخرى، بمن فيهم حلفاؤه الأقربون. هذا التمايز في المواقف مستمر إلى الآن، رغم أن الغلبة باتت واضحة لخيار حكومة الوحدة، سواء الموجودة حالياً أم الجديدة. لكنه يعود إلى التداول، لناحية أن الخيار الثاني بات معلقاً على قاعدة بقاء الحريري رئيساً مكلفاً ورئيس حكومة تصريف أعمال للمرة الثانية خلال عهد عون، ولو لم يتمكن من تشكيل الحكومة. وإذا تحقق ذلك، فسيُعد نكسة جديدة للعهد، بعد تراكم السلبيات في مساره.
الحريري، الذي يناور أيضاً في تعاطيه مع التحرك الشعبي ومع العهد وحزب الله والرئيس نبيه بري، يعتبر أنه شريك التسوية لمدة ست سنوات كاملة، وهو لم يقبل بها لمجرد البقاء ثلاث سنوات رئيساً أمضاها في التأليف أكثر منه في السرايا. وهذا يعطيه أفضلية على غيره من المرشحين السنّة، وعلى أن يكون في السلطة لا في صفوف المعارضة. ويغطيه في ذلك موقف داخلي من حزب الله وبري، وموقف الوزير جبران باسيل الذي يصر أكثر من طرف سياسي على تأكيد استمرار اتفاقهما تحت الطاولة. ويغطيه أيضاً موقف فرنسي من الرئيس ايمانويل ماكرون من دون الإدارة الفرنسية العارفة تماماً بواطن اللعبة اللبنانية الداخلية، المستمر عبثاً في مساعيه مع الأميركيين لتأمين موقف علني من عودة الحريري مع حكومة مشابهة للحالية. وإصرار الحريري بات معطوفاً على استثماره لعبة الشارع لمصلحته، ولعبة الطائفة السنية، على افتراض أنهما يعطيانه شرعية العودة إلى رئاسة الحكومة، ولو لم يتمكن من تأليفها. ما يترجم تلقائياً بتعويم حكومة تصريف الأعمال بتغطية كاملة من القوى الأساسية المعنية، بما فيها حزب الله، لمزيد من كسب الوقت.
لكن ذلك يطرح على الهامش مجموعة ملاحظات استطراداً لموقف رئيس الجمهورية ونظرته إلى معالجة الأزمة، بعدما لجأ الحريري إلى تغطية سنية لعودته وجاراه فيها ثنائي حزب الله وحركة أمل والنائب السابق وليد جنبلاط، على أساس أن الميثاقية لا يمكن أن تتحقق إلا بعودة الحريري المغطّى طائفياً. في حين أن المسيحيين الموزّعين ثلاثة أقسام - بين رئاسة الجمهورية ومعها بكركي، وبين القيادات التي اعتكفت عن المشاركة في الحكومة كالقوات اللبنانية (علماً أن أسئلة لا تزال متداولة عن إمكان تسمية القوات للحريري الذي لم يجارِها سياسياً) أو التي يمكن أن تغيب عن الحكومة كالتيار الوطني الحر، والمسيحيين الذين يتظاهرون - لم يتمكنوا من فرض خيارهم الحقيقي. ولم يطرح غيابهم، رغم قوة تمثيلهم العددي، مشكلة طائفية أو ميثاقية، لأن تغليب تفادي التوتر السني الشيعي لا يزال أولوية. وكذلك لأن الخطاب السياسي للقوى الأساسية لم يكن على مستوى الحدث، وظهر بلا أي رؤية واضحة ومفهومة. ولم يتخطّ ردّات الفعل المرحلية، وأظهر هذا التخبط فشل فريق إدارة الأزمة في تقديم نموذج سياسي يفرض نفسه على المشهد العام داخلياً وخارجياً، بعيداً عن المماحكات المحلية والعراضات الميدانية، ما أفقد هذه القوى دوراً أولياً في أزمة سياسية ومصرفية على هذا المستوى من الخطورة.