إعلان التيار الوطني الحر عدم مشاركته في الحكومة المتداولة برئاسة الرئيس سعد الحريري لم يلغ المشكلات أمامها، بل زادها تعقيداً، وأضاف مشكلات جديدة على المشهد السياسي والحكومي. ومن المبكر الكلام عن فتح الطريق أمام تشكيل حكومة يرغب حزب الله والرئيس نبيه بري في تسمية الحريري لها، لأن الأزمة شرّعت الأبواب مجدداً على وقائع تتعلق بالمتظاهرين وردّة فعلهم على تسمية الحريري، فضلاً عن رسائل وجّهها باسيل في كلمته، تخفي وراءها مجموعة من الأزمات الدفينة.ثمة سياسيون يتحدثون عن أن الحريري نجح، للمرة الأولى، في تحقيق إنجاز سياسي في معركة خاضها بهدوء ومن دون عثرات. لكن الكلام عن فوز الحريري تشوبه ضبابية. ومن المجازفة القول إن المتظاهرين سيقبلون بإنجاز تسوية حكومية عمادها الحريري بكل ما يمثله من تاريخ الحريرية السياسية، والأزمات المترافقة مع الانهيار الحالي نتيجة السياسات المالية والمصرفية، وكل الطاقم «التكنوقراط» الذي يحيط به. إذ كيف يمكن لمنظومة استمرت منذ عام 2005 أن تقدم، فجأة، نموذجاً وزارياً منزّهاً من السمسرات والفضائح المالية والصفقات غير المتناهية، في حين أن التظاهرات التي انفجرت في 17 تشرين الأول، بدأت بقرار «بسيط» اتخذه وزير «تكنوقراط» تابع لرئيس الحكومة مباشرة. والأخير سيرأس الحكومة للمرة الرابعة، من دون أن يحسب له في سجله أي إنجاز على المستوى الاقتصادي والمالي يسمح للمتظاهرين بأن يرحّبوا به ويستثنوه من ردة الفعل على احتمال تكليفه. وكيف يمكن وفق ذلك توقع إنجازات استثنائية في حين أن هذه الأزمات خلقتها الحكومات نفسها بالوجوه المعروفة نفسها.
وإذا كان هناك من يعمل على الملف الحكومي من دون الأخذ في الحسبان المتظاهرين وردّة فعلهم، مع استثناء عدم قطع الطرق في المناطق التي يسيطر عليها تيار المستقبل، إلا أن الكلام السياسي لا يزال أيضاً مبهماً. إذ يتأرجح حول احتمال التكليف بالحد الأدنى من الأصوات المطلوبة من دون التأليف. وهذا يسمح لحكومة تصريف الأعمال بالبقاء وتعويم كل القوى السياسية الحالية بما فيها التيار الوطني المعتكف عن المشاركة في حكومة جديدة. لكنْ هناك عقبتان أمام هذا السيناريو: الأولى أن رئيس الجمهورية لن يرضى، بعد تصرف الحريري تجاهه وخروج التيار من المشاركة في الحكومة، أن يعطيه مرة أخرى ترف البقاء رئيساً مكلفاً لتسعة أشهر مضيفاً إساءة جدية للعهد. والثانية أن الحريري يستعجل التأليف للقيود التي يضعها أمامه المجتمع الدولي الذي رهن أي مساعدة بتشكيل حكومة جديدة مرفقة بإصلاحات ومشاريع حيوية، وهو ما يعوّل عليه بكل رصيده، منتظراً دعماً دولياً وأميركياً مباشراً عبر انتظار زيارة الموفد الأميركي دايفيد هيل.
وعملية التأليف ليست بالأمر السهل أيضاً ولو توافر دعم حزب الله والرئيس نبيه بري للرئيس المكلف. ينسى الحريري وداعموه أن رئيس الجمهورية سيكون بالمرصاد، حتى ولو قبل بتسوية الحريري على مضض. وعون، في ظل التجارب التي مر بها حكومياً ورئاسياً، قادر على أن يلعب كل أوراقه الى النفَس الأخير، وأن يكرر مع الحريري ما فعله مع رؤساء الحكومات السابقين قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية وبعد دخوله الى بعبدا. والوزير باسيل نفسه، وإن أصبح خارج التركيبة الحكومية بالاسم، إلا أن موقعه السياسي والشخصي لا يزال يسمح له بأن يكون مقرراً في أي تشكيلة حكومية، بغضّ النظر عن ارتداد ما جرى أخيراً على مستقبله السياسي والحزبي. فباسيل حرص على التذكير بحكومة عام 2005، التي شكلها الرئيس فؤاد السنيورة من دون التيار الوطني الحر، وهو هنا أعاد التصويب على عنوان الميثاقية الذي بنى صعوده السياسي عليه، في تركيزه على ضرورة تحقيق التوازن المسيحي ــــ الإسلامي في السلطة والإدارة. ورغم أن باسيل ارتكب أخطاء على طريق تحقيق الميثاقية لمصلحة التيار الوطني الحر من دون القوى السياسية المسيحية الأخرى، إلا أنه كرس، مع نظرية الرئيس القوي وقانون الانتخاب لإعادة المناصفة المسيحية الى حقيقتها، معادلة أمام حلفائه وخصومه المسلمين، لإعادة التصويب على الدور المسيحي في الحكم. لكن المجازفة الكبيرة التي ارتكبها جعلت العهد والتيار يدفعان معاً ثمن أدائهما، لأنهما استنفدا الوقت في هذا الصراع الدائم من دون أن يقاربا جدياً حل الأزمة المالية الموروثة كرمى لعين التسوية والشراكة فيها، ما جعل التظاهرات تجرف أركانها، واستهدفتهما تحديداً. لذا أراد باسيل استعادة شارع التيار الوطني وجمهوره ومناصريه، والزخم في الجمهور المسيحي الذي انكفأ تحت وطأة الحركة الشعبية، والانهيار الاقتصادي والمالي وآثار التسوية التي حاول باسيل في مؤتمره نفي كل شراكة مالية واقتصادية مع الحريري من خلالها. ولا يفترض التقليل من تداعيات شهرين من الحركة الشعبية استهدفت التيار ورئيسه، والآثار السلبية التي ارتدّت في «المناطق المسيحية» ثم خفّت وتيرتها نتيجة تهدئة ظرفية برعاية رئاسية. فضلاً عن المراجعات الأخيرة في التيار في المحيط الرئاسي حيال السياسات المتبعة سياسياً وإعلامياً وأدت الى إطاحة نتائج الانتخابات النيابية والزخم الرئاسي من الداخل وليس بفعل خارجي. لكن مشكلة العودة الى الداخل المسيحي هي أن كمّ التراكمات التي حصلت منذ ثلاث سنوات حكومياً ونيابياً وإدارياً، تجعل من الصعب تحقيق اختراق إيجابي على طريق تطبيع هذا الوضع، علماً بأن السؤال البديهي سيتمحور حول تصرف القوات اللبنانية حيال التيار: فهل ستسمي الحريري رغم عدم مراعاة الأخير لها أكثر من مرة وتزيد بذلك الشرخ مع التيار، أم «تتضامن» مع التيار في المأزق الذي وصل إليه؟
وخطورة ارتداد باسيل الى الداخل أيضاً هي أنه يأتي على خلفيتين: ردة الفعل تجاه الحريري الذي بدأ التصويب عليه داخل التيار، من سياسيين ومناصرين، وردة فعل ترصد للمرة الأولى حيال حزب الله. عبارة يتيمة مرّرها باسيل في كلمته، لكنها تعبر عن اتجاه لتحرره من ورقة التفاهم، في مقابل خسارته السياسية الداخلية، وخصوصاً أن ردات سلبية في التيار كانت قد بدأت منذ أيام، حول موقف الحزب من عودة الحريري لأسباب إقليمية ودولية، من دون مراعاة رئيس الجمهورية، لتصبح التسوية ثنائية بفقدان الشريك المسيحي وعودة الثنائية السنية ــــ الشيعية الى الواجهة.