لا تختلف أسئلة معاهد الأبحاث وبعض الخبراء المختصّين عن أسئلة الأجهزة الاستخبارية ومؤسسات القرار السياسي والأمني في مواجهة التحديات والفرص الماثلة أمام إسرائيل، وخصوصاً أن كثيرين منهم من خريجي المؤسسة الأمنية. ويتأكد هذا المفهوم عندما يتعلق الأمر بمستجدات تتصل بالجبهة الخلفية لحزب الله، الذي ترى فيه المؤسستان السياسية والأمنية في تل أبيب التهديد الأشد خطورة على جبهتها الداخلية ومكانتها الاستراتيجية. في ضوء ذلك، تسعى تل أبيب، والمؤسسات ذات الصلة وباحثوها، لاستكشاف تأثير هذه المستجدات على خيارات حزب الله، وهامشه في المبادرة والردّ.أخذ الاهتمام الإسرائيلي زخماً إضافياً في ضوء ما يشهده لبنان من تطورات سياسية وشعبية، على أمل اكتشاف ما تنطوي عليه من تهديدات وفرص لمؤسسة القرار الإسرائيلي، وخصوصاً أنها تنظر إلى ما يجري في ضوء آفاقه المستقبلية وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات. ولم تخرج التقديرات التي وردت في التقدير السنوي لمعهد القدس للاستراتيجية والأمن، وعلى لسان الباحثة الرفيعة في معهد أبحاث الأمن القومي نائبة رئيس مجلس الأمن القومي إلى ما قبل نحو سنة المقدم أورنا مزراحي، عن الإطار الذي حدّده رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو خلال جلسة الحكومة، بعد نحو عشرة أيام على بدء الحراك الشعبي، بأن ما يجري في لبنان «هزة أرضية»، ملمّحاً إلى أنها فرصة استراتيجية وتاريخية.
وفي السياق نفسه، رأى معهد القدس في تقديره لعام 2020، أن «الغليان في لبنان يضع قيوداً على حرية عمل حزب الله». والتقى بذلك مع التقدير الذي أدلت به مزراحي، كما ورد على موقع قناة (12) في التلفزيون الإسرائيلي. بأن «حزب الله كله منشغل بالوضع اللبناني، وهذا أيضاً عامل كابح وخطوة صغيرة تبعده عن المواجهة». وهو ما يشي بأن الاهتمام في معاهد الأبحاث، فضلاً عن مؤسسات القرار والأجهزة المختصة، يتركز على مفاعيل الوضع الداخلي في لبنان على هامش حرية عمل الحزب في الدفاع والرد والردع. وتنبع خصوصية التقدير الذي قدمته مزراحي من كونها خدمت 12 عاماً في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تولت من ضمنها (2015 – 2018)، منصب نائب رئيس المجلس للشؤون الخارجية ومنسقة عمل المجلس والتخطيط الاستراتيجي بالنسبة إلى رئيس الحكومة والمجلس الوزاري المصغّر في القضايا الإقليمية والدولية. كما كانت مسؤولة عن إعداد أوراق اللقاءات السياسية لرئيس الحكومة. وخدمت قبل ذلك في قسم الأبحاث التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وضابطة في قسم التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط التابعة لهيئة أركان الجيش. واستمرت خدمتها في مناصب متعددة في المؤسسة الأمنية لمدة 38 عاماً.
ومما لفت في تقدير مزراحي أن الجهات المختصة في تل أبيب تراقب أيضاً مدى نجاح محاولة تصويب الاتهامات ضد حزب الله في ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والسياسية في لبنان، إذ أن «التدخل الكبير للحزب في الحكم، من شأنه أن يؤدي بالجمهور إلى ضبطه أكثر فأكثر كمسؤول عن الوضع الصعب. لكن حتى الساعة لا يزال هو الكتلة السياسية العسكرية الأقوى في لبنان».
وانطلاقاً من خبرتها في الوضع اللبناني، رأت مزراحي أيضاً أن «التغيير الحقيقي يحدث فقط عندما تقف في مقابل حزب الله قوة أقوى منه» في إشارة إلى ما هو أبعد من محاولة إرباك الحزب أو تقييده في مواجهة العدو الإسرائيلي. وفي تعبير صريح ومباشر عن رؤيتها لكيفية الخلاص من التهديد الذي يمثله حزب الله، لفتت مزراحي أيضاً إلى أن «الضغط من الداخل لتفكيك الحزب لا يكفي»، في دعوة صريحة لضرورة التكامل بين ضغوط الخارج والداخل.
مع ذلك، بقيت مزراحي على واقعيتها وحذرها، مشيرة إلى «كل ضابط استخبارات يعرف أنه يجب أن يأخذ في الحسبان الفهم الخاطئ وتدهور الوضع» ما يكشف مدى حضور التجارب التي كوت وعي مؤسسات صناعة القرار السياسي والأمني، عندما يتعلق الأمر بحزب الله. وتحضر في السياق نفسه أيضاً الرسائل التي انطوت عليها عملية أفيفيم الأخيرة، (أيلول الماضي)، ويبدو أن مفاعيلها ما زالت حية في وعي مؤسسة القرار الإسرائيلي، ومن ضمنها أن قيادة العدو أخطأت التقدير عندما راهنت على أن الظروف الداخلية والخارجية يمكن أن تساهم في منع حزب الله عن الرد المؤلم وهو ما برزت معالمه في تحقيق الجيش حول العملية (الأخبار - السبت 26 تشرين الأول 2019 ).
مع ذلك، تبقى حقيقة يبدو أنها لم تُحسم حتى الآن في تل أبيب، مع أنها ما زالت المهيمنة، وهي أن القراءة التي يبدو أن المقاومة تنطلق منها هي أن تبعات امتلاك اسرائيل هامش المبادرة في الاعتداءات العسكرية المباشرة على الساحة اللبنانية، وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات داخلية وإقليمية، تبقى أكبر بكثير من أي تضحيات ستترتب على أي مواجهة تنتج عن الرد على هذه الاعتداءات، خاصة أن العدو سيدفع بالتأكيد أثماناً مؤلمة إزاءها.