قبل نحو شهر ونصف شهر، عقد مجلس بلدية بيروت جلسة من دون جدول أعمال. يومها اقترح بعض الأعضاء تعليق مشاريع مختلف عليها ويعارضها جزء من البيارتة، ومنها مشروع تطوير الكورنيش البحري على حساب مزيد من الأملاك العمومية البحرية بقيمة اجمالية تصل الى 25 مليون دولار. لكن يبدو أن المشروع لا يزال مطروحاً على أجندة المجلس، ويعمل عليه الاستشاري رفيق خوري المكلف بإنجاز الدراسة وكأن شيئاً لم يكن، رغم اعتراض بعض الجمعيات البيروتية عليه. اللافت أن الاستشاري أدخل تعديلات على المشروع، وفق ما تُبيّنه المستندات التي حصلت عليها «الأخبار»، لناحية تقليص مساحة التوسع نحو البحر ونوع البلاط المستعمل وقيمته. المقارنة بين المسودتين، الأولى والثانية، تفوح منها رائحة صفقة تنكرها كل الأطراف.
9 مليارات إضافية لـ«سان فانسان»
وفق المسودة الأولى، فإن البلاط الذي سيستعمل على طول مساحة الكورنيش من نوع «غرانيت»، لونه رمادي وبسماكة تراوح بين 40 مم و60 مم، بمساحة اجمالية تصل الى 62 ألف متر مربع وبسعر يتراوح بين 65 و75 ألف ليرة للمتر المربع. ما يعني أن القيمة الإجمالية المتوقعة لسعر البلاط تبلغ نحو تسعة مليارات ليرة، من كلفة المشروع المقدرة بـ 25 مليون دولار . غير أن سعر البلاط ارتفع في المسودة الثانية الى 21،6 مليار ليرة لبنانية، بزيادة نحو 12 مليار ليرة وبما يشكل نصف الكلفة الإجمالية للمشروع. إذ قرر الاستشاري استبدال نوعية البلاط في البداية بآخر من نوع «سان فانسان»، رغم خفض مساحة «التبليط» من 62 ألف متر مربع الى 58 ألف متر مربع. وعليه، ارتفع سعر المتر المربع الواحد من 75 ألف ليرة الى ما بين 355 و445 ألف ليرة. ولبلاط «سان فانسان» قصة أخرى. اذ تؤكد معلومات «الأخبار» أن رئيس البلدية جمال عيتاني زار برفقة الاستشاري وبعض المهندسين معمل النائب في تيار المستقبل رئيس لجنة الأشغال النيابية نزيه نجم وطلب «مسطرة» من البلاط. وفعلاً، وصلت الى البلدية «مسطرة» واحدة تحمل إمضاء شركة «نجم غروب»، الأمر الذي أثار ريبة بعض من في البلدية، وخصوصاً أن نجم هو أحد أشرس المدافعين عن المشروع، وكانت له مداخلة طويلة في مؤتمر إنماء بيروت حول تطوير الكورنيش، والذي انتهى باشتباك كلامي بين الحاضرين حول «هدر أموال البيارتة». والسؤال هنا: هل سيتم شراء البلاط من معمل نجم الذي يفترض في الأساس أن يكون مراقباً للمشروع من موقعه كنائب لمدينة بيروت أولاً ورئيس لجنة أشغال ثانياً؟ ألا يدخل ذلك ضمن تضارب المصالح والاستفادة من المال العام لمصالح خاصة ولو أن الصيغة تقول إن العقد لن يكون مباشراً مع البلدية، بل بواسطة متعهد خاص يفوز بالمشروع وفق مناقصة «شفافة».

«حاسبوني عند إتمام العقد»
يؤكد نجم لـ «الأخبار» أن الاستشاري هو من طلب «المسطرة» من معمله بالذات، «ربما لكونه أكبر معمل للبلاط في لبنان والشرق الأوسط ويعمل في هذا المجال منذ 47 عاماً»، مشيراً الى أن ذلك لا يلزم المتعهد بالشراء من معمله لأن غالبية المعامل اللبنانية تستورد هذا النوع. النائب البيروتي أكد أن معمله، في حال رسا الخيار عليه، «سيكون متعاقداً مع المتعهد وليس البلدية». وسأل عما يحول دون بيعه للمتعهد إذا ما قدم مواصفات جيدة وسعراً مناسباً بواسطة مناقصة: «هل أتوقف عن العمل لأنني أصبحت نائباً. وهل المطلوب إيقاف معملي؟ واذا رأيتم أي خلل في دفتر الشروط عند وضعه وأن شركتي فُرضت بطريقة أو بأخرى عندها حاسبوني مع التأكيد أنه لم يطلب مني أي شيء حتى الساعة ولا تم تكليف متعهد لتنفيذ المشروع وإجراء مناقصة لشراء البلاط». حتى الساعة «القصة ليست سوى أن الاستشاري والبلدية طلبا «مسطرة» من بلاط «سان فانسان»، فأرسلتها إليهم كما أرسل يومياً عشرات المساطر»، مؤكداً أن لا قانون في لبنان يحظر على من يشغل منصباً رسمياً أن يتعاقد مع أي مؤسسة عامة أو مرفق عام، إلا في حال استعمال موقعه لفرض عقد معيّن بطرق ملتوية. أما دفاعه عن المشروع «فسأستمر في ذلك لأنه مفيد لبيروت. فالبلدية تملك نحو 600 مليون دولار في احتياطها بالليرة اللبنانية. ويفترض استثمار هذه الأموال في مشاريع إنمائية».

مليون دولار دراسة لمشروع افتراضي
الى ذلك، ثمة ثغرة أخرى. فمشروع تطوير الكورنيش البحري يحتاج الى موافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني، ومن ثم موافقة من وزارة الأشغال العامة والنقل ليقدم كمرسوم الى مجلس الوزراء لأنه يتعلق بإشغال أملاك بحرية. الا أن المجلس البلدي لم يستحصل سوى على موافقة التنظيم المدني، فيما المعاملة لا تزال في وزارة الأشغال العامة من دون توقيع. يعني ذلك أن المشروع لا يزال مجرد تصميم من دون موافقة جميع الأطراف على تنفيذه ويُواجه بمعارضة كبيرة من الجمعيات البيئية والجمعيات البيروتية، الا أن المجلس البلدي شرع في إعداد دراسته وكلّف الاستشاري رفيق خوري بها بقيمة تصل الى مليون دولار، وفق المصادر البلدية!
أرسلت مؤسسة النائب نزيه نجم الى المجلس البلدي «مسطرة» من البلاط المطلوب


حول ذلك، يقول رئيس المجلس البلدي لـ«الأخبار» إن المشروع يمر بمراحل للموافقة عليه. «التصميم» نُفّذ وعُرض على التنظيم المدني الذي أعطى موافقته ورفعه الى الأشغال. ويؤكد أنه لا يمكن الحصول على مرسوم من دون انهاء الدراسة، علما بأن الاستحصال عليه ليس صعباً لأنه غير مخالف للقانون. وعن الفارق في الأسعار بين مسودتي الاستشاري الأولى والثانية، يشير الى أنه لا علم له بهذه المسودة «ولم أجتمع بالاستشاري منذ خمسة أشهر»! كما أن «المجلس لم يوافق بعد على التصميم ولا على المواصفات لأن مرحلة التصميم النهائي لم تنته بعد». وعن بلاط «سان فانسان» من معمل النائب نزيه نجم، يؤكد عيتاني أنها «لم تعجبنا واستبعدناها لأنها غير مناسبة. نبحث الآن في خيارات أخرى وأقل تكلفة». لكن المسودة وصلت الى البلدية منذ ثلاثة أيام فقط ولا تزال تعتمد هذا الخيار؟ «لم يصلنا أي شيء أبداً»، مؤكداً أن «المجلس اليوم ينظّم الأولويات والأفضلية للمساعدات الاجتماعية المباشرة للناس المحتاجة قبل أي شيء آخر» (راجع «الأخبار»، الجمعة 3 كانون الثاني 2020). ماذا عن التعديل في المشروع الرئيس وتقليص المساحة الممتدة على الأملاك البحرية؟ أجاب: «راجعنا التصميم الأول بعدما تيقّنّا من امكانية تأثير التوسع على الحياة الطبيعية الخاصة بالصخور، ونتيجة خطر الوقوع عن الدرج المنوي بناؤه، ورأينا أنه يمكن خفض التكلفة فقررنا التوسع مترين اثنين عن المساحة الموجودة حالياً لتنظيم خط سير للدراجات الهوائية».
من جهته، ينفي محافظ بيروت زياد شبيب لـ«الأخبار» أن يكون قد تسلّم أي نسخة رسمية للدراسة النهائية. لكنه يلفت الى طلبه من الاستشاري تزويده ببعض المعلومات التي تبدلت في الأشهر القليلة الماضية. يمتنع شبيب عن «التصريح بأي موقف الآن حول الأسعار ونوع البلاط وكيفية الحصول عليه، رغم أن علامات استفهام كبيرة تطرح حوله، الى حين تسلّم المستند الرسمي، وحينها نتخذ القرار المناسب». ولكن، كيف سينفذ مشروع لم يستحصل على مرسوم إشغال أملاك بحرية بعد؟ «المفروض توجيه هذا السؤال الى المجلس البلدي ورئيسه الذي اجتمع مع وزير الأشغال. ربما لمس وعداً بالتسهيل واستعجل المشروع على هذا الأساس». ما تعليقك حول الاستحصال على مسطرة من معمل النائب نزيه نجم دون غيره من المصانع؟ «لا تعليق، عندما نتأكد من الموضوع نبني على الشيء مقتضاه».