بعد أسابيع على ترك المصارف تتحكّم بالمودعين وفق استنسابيتها المعهودة، وتوزيع الأدوار بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وقوى السلطة السياسية حول الجهة صاحبة الصلاحيات القانونية لتنظيم القيود والضوابط على عمليات السحب والتحويل والقطع (كابيتال كونترول)، أقرّ سلامة لجمعية المصارف في اللقاء الشهري بينهما أمس، بأنه سيصدر تعميماً «بحكم صلاحيات مصرف لبنان وبعد التوافق مع السلطات المعنية». أي أن الأسابيع الماضية كانت بمثابة فرصة لتمييعٍ للمسؤوليات وتقاذفٍ لكرة النار التي لا يريد أحد أن يحملها. لم يكن سلامة يريد أن ينظّم الـ«كابيتال كونترول»، ولم يكن السياسيون يريدون ذلك أيضاً. بدا كأن الأمر فيه مصلحة مشتركة لتهريب الأموال إلى الخارج تماماً كما بدا في اللقاء الشهري أمس، أن تنظيم الكابيتال كونترول هدفه إمرار عدم إجبار المصارف على ردّ أموال المودعين بالدولار.محضر اللقاء الشهري يشير إلى أن سلامة أعلم المصارف أنه سيصدر التعميم المطلوب بحكم صلاحية مصرف لبنان وبعد التوافق مع السلطات المعنية على التدابير. وتتضمن هذه التدابير الآتي:
ــــ حرية استعمال «الأموال الجديدة» الواردة من الخارج بعد تاريخ 17/11/2019.
ــــ أن يقتصر التحويل إلى الخارج، خارج الأموال الجديدة، من جهة لتغطية النفقات الشخصية الملحّة وضمن سقف 50 ألف دولار سنوياً، ومن جهة أخرى لتمويل استيراد المواد الأولية للزراعة والصناعة أيضاً ضمن سقف 0.5% من الودائع سنوياً.
ــــ يتحدّد السحب النقدي بالليرة بسقف شهري قيمته 25 مليون ليرة للمودع الواحد مع تطبيق إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ــــ يخضع استعمال البطاقات خارج لبنان للحدود المفروضة عليها.
ــــ يتم دفع الشيكات بالليرة أو بالدولار بالحساب وليس نقداً على شبابيك المصارف.
سلامة: تحويلات اللبنانيين المغتربين ما زالت كبيرة وتفوق 4 مليارات دولار


لم يذكر المحضر أي أمر بخصوص سحب الدولارات نقداً من المصارف، وكأنما يراد طمس هذا الأمر نهائياً. بعبارة أخرى، كأن المجتمعين يشيرون إلى أن الدولارات الموجودة في السوق المحلية، لا يمكن التداول بها إلا عبر شيكات توضع في الحساب، لا بل قد يعني هذا الأمر أنه جرى تحويل الدولارات عنوة إلى ليرات بسعر الصرف المحدّد من مصرف لبنان وليس السعر الفعلي في السوق الموازية أو في السوق السوداء، فما يسمح للمودع هو أن يسحب الأموال بالليرة حصراً، وسرعان ما ستصبح الدولارات المحليّة المودعة في المصارف عبارة عن مبالغ لا يمكن تحصيلها إلا عبر ليرات وبسعر صرف منفوخ جداً (1507.5 ليرات وسطياً مقابل الدولار الواحد، علماً بأن صندوق النقد الدولي يعتبر أن سعر الصرف الفعلي يصل إلى 3000 ليرة)، ما يعني أن الدولارات المودعة في المصارف بدأت تفقد قيمتها الحقيقية التي تساوي اليوم 2150 ليرة.
كذلك ورد في المحضر كلام عن السيولة المتوافرة للبنان. إذ أشار سلامة إلى أن تحويلات اللبنانيين المغتربين «ما زالت كبيرة وتفوق 4 مليارات دولار». كلامه هذا يثير الاستغراب: فهل هو يخطّط لاستعمال أموال المغتربين من أجل تمويل الاستهلاك والرفاهية والفساد السلطوي كما اعتاد أن يفعل طوال السنوات الماضية من خلال تمويل الاستيراد وعجز الخزينة، أم أنه يشير إلى أن هذه السيولة هي الذخيرة الوحيدة المتوافرة لدى لبنان للخروج من الأزمة؟
في الواقع، ما قاله سلامة تالياً يفسّر الكثير؛ فهو لمّح إلى أن «الاتصالات جارية مع المؤسسات المالية الدولية التي أبدت استعداداً للتعاون مع المصارف الراغبة لتوفير تمويل للاقتصاد من خلال تعاون ثلاثي: المصرف اللبناني، المؤسسة الدولية والقطاع الخاص اللبناني». إذاً، هل عولجت مسألة تمويل الاقتصاد بأموال من المؤسسات الدولية ولم يعد لدى المصارف أموال لإقراضها في السوق المحليّة؟ هل سيصبح اقتصاد لبنان رهينة وصاية المؤسسات الدولية الخارجية، سواء مرّ عبر صندوق النقد الدولي أو لم يمرّ عبره؟



إفلاس غير معلن
عملياً، إن المصارف في حالة إفلاس غير معلنة. يستدل على هذا الأمر من خلال النقاش الدائر بين المصارف ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. هذه الأخيرة اقترحت خفض معدلات الملاءة المطلوبة من المصارف إلى 10.5% من الأموال الخاصة، وزيادة مخاطر مصرف لبنان بالعملات من 50% إلى 150%، وزيادة الخسائر المتوقعة بما يوازي 5 أضعاف، أي اعتبار مجمل محافظ المصارف (توظيفات وقروض) في المرحلة الثانية من الخسائر المتوقعة، وهذا كاف لاعتبار أن المصارف في حالة إفلاس غير معلنة.
في المقابل، طلبت المصارف أن تكون أوزان المخاطر على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان 100% فقط، وأن مسألة الخسائر المتوقعة «غير مبرّرة».


سوق الصيرفة هدف المصارف
حاكم مصرف لبنان أبلغ المصارف أنه اجتمع بالصرافين وطالبهم بالالتزام بسعر صرف يبلغ 2000 ليرة مقابل الدولار، إلا أنه أجرى نقاشاً آخر مع المصارف حول إمكان «أن تقوم المصارف من خلال شركات متخصصة تابعة لها بالتعامل مع سوق الصيرفة وأن تقوم شركة لبنان المالية بتنسيق التسعير اليومي. وقد يجعل هكذا تنظيم أسعار الصرف مضبوطة أكثر بكثير مما هو قائم حالياً، وخصوصاً أن عدداً كبيراً من الصرافين غير مرخص لهم، ما يخلق الفوضى الحالية. هذا يعني أن رغبة سلامة أن تستحوذ المصارف على سوق الصيرفة للاستفادة من عمليات المضاربة على العملة. وبحسب المعطيات المتداولة، فإن هذه الفكرة طرحت على سلامة من قبل بعض المصرفيين الراغبين في ابتلاع سوق الصيرفة بحجّة «تنظيمها».