لا يشكل فيروس كورونا المستجد التهديد الوبائي الأول الذي تواجهه الدولة اللبنانية ويعرض مواطنيها للخطر. لكنه، بالتأكيد، الاول الذي تواجهه من دون مواكبة قانونية وإجراءات إدارية ملزمة قانوناً، تحدّ من انتشاره وتتدارك خطره.ورغم أن المكتبة القانونية تزخر بنصوص ملزمة ترعى مقتضيات حماية الصحة العمومية، ويعود معظمها الى عهد الانتداب، الا ان الجهات المختصة أبقت هذه النصوص في «الحجر الصحي». وباستقراء النصوص التي نظمت أحكام حماية الصحة العامة والحجر الصحي وتنظيم مكافحة الأوبئة، نجد ان القرار رقم 188 (19 نيسان 1920) بعنوان «وقاية الصحة العمومية» الصادر عن «المندوب السامي للجمهورية الفرنساوية في سوريا وكيليكيا» الجنرال غورو، (المعدل بموجب القرار 1362 تاريخ 06/04/1922 والقانون الصادر في 06/02/1931 والمرسوم الاشتراعي 16 بتاريخ 30/06/1932)، قد نص على إجراءات للوقاية من الامراض السارية، خصوصاً لجهة الفرز الاجباري للمرضى في أماكن مخصصة، والتدابير التطهيرية لجميع الاماكن والاشياء التي يمكنها نقل العدوى. كما حدد موجبات المؤسسات الصحية واصحاب الفنادق والنزل ومدراء المدارس والمستشفيات العامة والخاصة وغيرها من المؤسسات الصحية، لجهة إحصاء وابلاغ السلطة الادارية بكل مرض وبائي، وحظر الدنو من المريض الا لمن يعالجونه، والاحتياطات التي يجب اتخاذها لمنع انتشار الداء، وكيفية نقل المرضى وتطهير العربات الخاصة لنقلهم، والحظر على كل مصاب بمرض سار من دخول أي عربة للنقل العمومي، وتحديد مدة عزل المصابين بمرض وبائي تتراوح بين 16 و40 يوماً.
بعده، صدرت سلسلة مراسيم لتنظيم مكافحة اوبئة وامراض بعينها كالمرسوم رقم 1175 (30 تشرين الثاني 1934) المتعلق بتنظيم مكافحة البرداء والملاريا، والمرسوم 13702 (24 تشرين الثاني 1948) للوقاية من داء الخانوق، والمرسوم 14538 (16 آذار 1949) لمكافحة الملاريا والذباب بواسطة الـ «د.د.ت»، والقانون الصادر في 8 حزيران 1959 لمكافحة الجدري، والقانون الصادر في 20 حزيران 1957 المتعلق بالمجذومين، والمرسوم الاشتراعي 133 (12 حزيران 1959) لمكافحة الامراض الانتقالية، والمرسوم 9810 (4 أيار 1968) المتعلق برسوم الحجر الصحي وتحديد تكاليف بعض الاجراءات الضرورية، والمرسوم 9809 (4 أيار 1968) المتعلق بفرض التلقيح الاجباري ضد شلل الاطفال.
المفارقة ان كل هذه النصوص لم تجر الاستعانة بأحكامها في تنظيم مكافحة الوباء المستجد، من أجل وضع احكام مشابهة تتصف بالصفة الإلزامية، وتفرض عقاباً على مخالفة أحكامها. كما لم يتم العمل بموجب النظام الصحي الدولي رقم 2 (الموقع في جنيف في 25 ايار 1951 وصادق عليه لبنان في 10 آب 1955)، والذي يفرض لدى وصول أي طائرة او باخرة الى الأراضي اللبنانية تقديم تصريح خطي، ويمنع على افراد الطاقم بالاتصال بالبر قبل ان يأذن موظف الحجر الصحي بذلك خطياً، كما يحظر إفراغ البضائع قبل الحصول على هذا الإذن. كذلك يُمنع مغادرة أي سفينة او طائرة او مركب الاراضي اللبنانية قبل الحصول على رخصة من مكتب الحجر الصحي تفيد ان ما من سبب صحي يمنع السفر، كما يمنع إنزال المرضى الى البر او ارسالهم الى المستشفى او المعاينة قبل موافقة الحجر الصحي.
الإجراءات الصحية والإدارية المعمول بها حالياً لم تلتزم، أيضاً، بأحكام القانون المتعلق بالأمراض المعدية (31 كانون الأول 1957)، والذي عرّف الأمراض الانتقالية بأنها التي تنتقل من المريض او من السليم الحامل للجراثيم (انسانا كان او حيوانا) الى الاصحاء مباشرة او بالواسطة والتي تتخذ احيانا الشكل الوبائي. وهو حدّد كيفية مكافحة هذه الامراض من خلال إجراءات تطبق بصورة منفردة او مجتمعة وهي: الإخبار، عزل المصابين، عزل المخالطين، العلاج الواقي للمخالطين، التبخير والتطهير، التحري عن مصدر العدوى، تصحيح البيئة، التثقيف الصحي العام. علماً ان هذا القانون ألزم كلاً من رب العائلة او الوصي او مختار المحلة او مدير المؤسسة الصناعية او التجارية (معمل، فندق، مدرسة الخ...) وكل هيئة رسمية او خاصة تعنى بشؤون صحية او اجتماعية، لدى اشتباهها بإصابة بمرض انتقالي، ان تستدعي طبيباً للتحقق من المرض والإخبار عنه، وان تسهّل للطبيب مهمة الإخبار والا تخفي الحادثة بعد اكتشافها. كما نص على عزل المصابين اجباريا واتخاذ التدابير الوقائية فورا بصورة إلزامية وفق قرار يصدره وزير الصحة.
الفراغ التنظيمي في مواجهة الازمة الحالية يتجلّى، كذلك، في عدم تطبيق نص المادة التاسعة من القانون المتعلق بالأمراض المعدية، والذي يوجب على وزارة الصحة ان تستصدر مرسوما تعين فيه تدابير لتحول دون انتشار الوباء، ويحدد صلاحية كل سلطة او ادارة يعهد اليها تنفيذ تلك التدابير وكيفية تأليفها واختصاصها، ويمنحها الصلاحيات اللازمة للتنفيذ، على ان تدفع الحكومة نفقات تنفيذ تلك التدابير سواء اكانت للأشخاص او للمعدات واللوازم، وتتحمل البلديات الكبرى ربع هذه النفقات.
وقد اجازت المادة العاشرة من القانون لوزارة الصحة، عندما يتخذ المرض الانتقالي شكلا وبائيا في قرية او مدينة او منطقة، ان تقيم نطاقا صحيا على المكان الموبوء وتمنع الدخول اليه او الخروج منه والتجمعات فيه.
ولتطبيق هذه الاحكام على الامراض والاوبئة المستجدة، اوجبت المادة الحادية عشرة من القانون على وزير الصحة ان يصدر قرارا بإجراء التعديل اللازم على لائحة الامراض الانتقالية وعلى لائحة الامراض المتوجب عزل المصابين فيها، وهو ما لم يحصل حتى تاريخه، ما يعني ان «كورونا»، من الناحية القانونية، ليس من بين الامراض المعدية في لبنان!
وغابت عن التطبيق المادة 604 من قانون العقوبات التي تعاقب من تسبب، عن قلة احتراز أو اهمال أو عدم مراعاة للقوانين أو الانظمة، في انتشار مرض وبائي بالحبس حتى ستة أشهر. وتعاقب الفاعل الذي أقدم على فعله وهو عالم بالأمر من غير أن يقصد موت أحد بالحبس من سنة الى ثلاث سنوات فضلا عن الغرامة.
وتجدر الإشارة الى ان الفصل الرابع من قانون الامراض المعدية نص على تجريم وملاحقة كل من يهمل الإخبار عن اي مرض من الامراض الانتقالية، او يخفي أي حالة عمداً او عن إهمال، وكل من يخالف او يعرقل تدابير العزل وسائر التدابير الوقائية. وأجاز لوزارة الصحة ملاحقة المخالفين امام القضاء، ونص على إنزال عقوبات تتراوح بين الحبس والغرامة بحق مرتكبي هذه الجرائم، وهي احكام قد يتعذر تطبيقها في ظل عدم تعديل لائحة الامراض الانتقالية.
وتبدو خطورة الفراغ القانوني في مواجهة الوباء المستجد في تأكيد هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل في الاستشارة رقم 161/ر/1977 التي افتت بعدم صلاحية المحافظ لاتخاذ القرارات الرامية الى اقفال المحلات المعدّة لتحضير بعض المأكولات والمشروبات لدرء الاخطار والاوبئة التي يمكن ان تنتج عنها، لأن مثل هذا الاقفال فيه مساس بمبدأ الملكية الفردية ومبدأ حرية التجارة اللذين لا يمكن التعرض لهما الا عن طريق نص خاص صريح بهذا الشأن، وليس عن طريق التوسع في التفسير. وفي غياب مثل هذا النص الصريح، فان صلاحية المحافظ تبقى محددة ضمن اطار احترام هذين المبدأين.
وما يعزز هذا التفسير ان المشترع الفرنسي عمد الى ايجاد نص خاص صريح يخول السلطات الادارية، في مثل هذه الحالات، اللجوء للتنفيذ الفعلي والآني للتدابير الصحية المحددة في القانون عندما تقتضي الضرورة ذلك.
وفي ما يتعلق برصد ومتابعة الامراض الانتقالية لدى اللاجئين المقيمين مؤقتا في لبنان، فقد نصت المادة 123 من المرسوم رقم 8377 الصادر في 30 كانون الأول سنة 1961 المتعلق بتنظيم وزارة الصحة، على الحاق مراقب صحي واحد بمديرية اللاجئين بموجب قرار من وزير الصحة، مع ما يستوجبه ذلك من متابعة صحية لشؤونهم والحد من انتشار الامراض المعدية بينهم لجهة فرض التلقيح الالزامي، وهو الامر غير المتوافر حالياً سواء بالنسبة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو لمخيمات النازحين السوريين. إذ تتولى شؤونهم الصحية بعض الجمعيات الاهلية بالتنسيق مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وما تبقى منظمة «أونروا»، في ظل غياب السلطات الرسمية عن رصد ومكافحة الامراض المعدية التي قد تفتك بتجمعات اللاجئين والمجتمعات المضيفة.
كذلك غابت عن التطبيق إزاء التهديد الوبائي الذي يهدد أماكن العمل احكام المرسوم رقم 11802 (30 كانون الثاني 2004) المتعلق بتنظيم الوقاية والسلامة والصحة المهنية في كل المؤسسات الخاضعة لقانون العمل، والتي تفرض على المؤسسات التي يزيد عدد الاجراء فيها على 15 ان يكون لديها طبيب يقوم مقام «طبيب العمل»، لمراقبة الأُجراء صحياً وتطبيق الاجراءات الوقائية في اماكن العمل لتخفيف خطر التعرض للأمراض المعدية،
اما لجهة الحد من انتشار الأوبئة والامراض المعدية في السجون، فإن ذلك يستوجب تفعيل الاحكام المنصوص عنها في المرسوم رقم 6236 (17 كانون الثاني 1995) المتضمن النظام الداخلي للسجون التابعة لوزارة الدفاع الوطني، والتي تفرض على طبيب السجن أن يزور السجن ثلاث مرات على الاقل في الاسبوع ويجري تفتيشا شاملا، وأن يتخذ التدابير الواقية من الامراض الوبائية. كما يستوجب تفعيل الاحكام المنصوص عنها في المرسوم 14310 (11 شباط 1949) المتعلق بتنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث، والتي فرضت على الاطباء المكلفين بالإدارة الطبية زيارة السجن ثلاث مرات على الاقل في الاسبوع وإجراء تفتيش صحي شامل، واتخاذ التدابير الواقية... وهي كلها لا تزال خارج التطبيق في السجون كما خارجها.
وتتجلى - أخيراً - صورة الفراغ في مواجهة الازمة في عدم ممارسة التفتيش المركزي، ممثلاً بالمفتشية العامة الصحية والاجتماعية والزراعية لصلاحياتها واختصاصاتها، بتفتيش الدوائر الصحية والمستشفيات والمفارز الصحية الحكومية والبلدية ودوائر العمل والشؤون الاجتماعية ومصلحة الانعاش الاجتماعي والمؤسسات الاجتماعية، ومراقبة سير العمل وكفاءة الموظفين وكيفية قيامهم بواجباتهم ومسؤولياتهم، ومدى تطبيق كافة القوانين والأنظمة الواردة أعلاه.

* أستاذ قانون في الجامعة اللبنانية