ساهم انشغال اللبنانيين بملاحقة أخبار انتشار فيروس كورونا، في تقليص الاهتمام الإعلامي بمتابعة يوميات التدابير المصرفية والتدهور الاقتصادي والمالي. لكن هذا لا يعني أن معاناة المودعين انتهت وأن المصارف تراجعت عن إذلالهم ونهجها السيئ في ابتداع أساليب جديدة لتقليص سحوباتهم. فحين يضطر أستاذ جامعيّ أو عامل أو متقاعد أن يشحذ خمسين دولاراً من مدّخراته، من مصارف يُعرف أصحابها بأنهم يشترون سيارات ومنازل كهدايا لأصدقائهم، فهذا يعني أن الأزمة لم تعد أزمة مالية ومعيشية وحسب، بل تطاول كرامة الناس قبل جيوبهم.وإذا كان لبنان الرسمي منهمكاً في إعداد القرار المتعلّق باستحقاق سندات اليوروبوند، فإن لبنان الشعبي ينتظر استحقاقاً يمسّه مباشرة يتعلق بشكل من أشكال تشريع الكابيتال كونترول الذي لم يحسم بعد الخيار الأخير حوله. وهذا الاستحقاق يتعلّق بموقف قادة الكتل النيابية والقوى السياسية من هذا التشريع، وبعضهم بدأ يروّج له ويدافع عنه، وماذا سيكون موقف الناس والمودعين من هؤلاء. لأن أي تدبير من هذا النوع، وبعد أشهر من المماطلة سيكشف من دون مواربة، حقيقة وقوف القوى السياسية إلى جانب الناس ــــ ناخبيهم، أو إلى جانب المصارف. حتى الآن، ومهما كانت الصيغة التي ستعتمد لهذا التدبير، سواء عبر إرسال الحكومة مشروع قانون الى مجلس النواب أو من خلال تغطية الحكومة لتدابير يتّخذها مصرف لبنان، بدا أن المصارف تمكّنت من تحويل القوى السياسية إلى رهينةٍ لديها، وتمكّنت من تطويع «الدولة» بكامل هيكليتها، من أجهزة إدارية وسياسية وأمنية وقضائية، في خدمتها. وبخلاف ما قاله رئيس الحكومة حسان دياب أخيراً من أن الدولة لم تعد تستطيع حماية شعبها، فإنها أثبتت فعاليتها كما ظهر منذ 17 تشرين الأول، في حماية المصارف وحدها التي باتت تستعين في صورة فاعلة بكل أجهزة هذه «الدولة». بدليل ما يحصل في القضاء وعدم سلوك أي دعوى على مصرف طريقها حتى النهاية، وتحوّل القوى الأمنية من مهمّاتها الأصلية الى تأمين سلامتها وسلامة أصحابها. والسؤال المعروف الجواب عنه سلفاً، كيف تمكنت المصارف من القبض على هذه الطبقة السياسية بكاملها، ولقاء أي بدل تمكنت من تطويعها؟ هل فقط لكونها تملك «بنك معلومات» عن كل ما يتعلّق بالفساد وأموال السياسيين، أم لأنها أيضاً شريكة أساسية معها، فقبضت بذلك ثمن صمتها عنها؟ وفق ذلك، كيف يمكن تفسير استعجال أركان السلطة الحالية بكلّ القوى السياسية المنضوية تحت لوائها، تأمين تشريعات وابتداع ما يبرر للمصارف إجراءاتها ضد المودعين؟ وليس صحيحاً أن قوى السلطة تعمل على تحطيم هذا النظام المالي الحالي الذي تستفيد منه منذ سنوات، بل إن أركانها الذين يكررون منذ خمسة أشهر لازمة «ضرورة حماية أموال المودعين» هم الذين ساهموا في التمديد لحاكم مصرف لبنان وتماهوا مع سياسته الداخلية والخارجية، وانصاعوا لأداء المصارف وتماديها في ممارستها الفضائحية، رغم تضاعف المآسي الاجتماعية اليومية. والأدهى من ذلك أن القوى السياسية الموجودة حالياً في المعارضة على ما يفترض، ومعها طبقة من رجال الدين الفاعلين، تشنّ أكبر حملة حماية ودفاع عن المصارف، لتصبح نقطة الالتقاء الوحيدة بين السلطة والمعارضة. إذ تتحوّل المعارضة إلى مدافعة شرسة عن المصارف بحجّة حماية النظام المالي من الذين يريدون تهديمه، فتبرر لها كل أساليبها القمعية، فيما يزداد الفقر وتنتشر البطالة.
ومع حصولها على تغطية سياسية واسعة، ستتأكد تباعاً في ظل قبول معظم الأطراف فكرة «الكابيتال كونترول» رسمياً بعدما أصبح أمراً واقعاً من دون قوننة وباستنسابية طاولت صغار المودعين في يومياتهم، تسعى المصارف أيضاً الى الحصول على تغطية «دستورية». وهنا التحدّي هو الأكبر، لأن ما يحصل حالياً بحسب الآراء الدستورية يتعلق بالاحتمالات الموضوعة أمام مجلس النواب في صياغة أي قانون يشرّع هذا التدبير المستجدّ مصرفياً، ومدى ملاءمة أي تشريع جديد للفقرة «واو» من مقدمة الدستور عن النظام الاقتصادي الحر الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة. وإذا قفز أي تشريع فوق الدستور، فيمكن الإشارة الى النقاش المتداول لتأمين عشرة نواب مستعدين للطعن أمام المجلس الدستوري الذي يحظى حالياً بإجماع حول دوره غير المشكوك فيه والرهان عليه، برفض كل ما يمسّ الدستور وحماية النظام الاقتصادي الحر. وقد يكون هذا هو الملاذ الأخير للبنانيين لعدم إقدام مجلس نوابهم على القفز فوق مصالحهم لمصلحة استمرار امتيازاتهم وامتيازات المصارف، لأن عدم طواعية المجلس الدستوري، لا يزال يقف مانعاً أمام اللجوء الى تشريع يطعن به. لذا يتم التفتيش عن وسائل بديلة تتحايل بواسطتها الحكومة والقوى السياسية والمصارف على اللبنانيين مرة أخرى، لسرقة أموالهم. والأكيد أنها ستجد هذه البدائل ما دام هناك من يغطّيها سياسياً وقانونياً وأمنياً، وما دام هناك لبنانيون يعتقدون بأن استهداف المصارف «مؤامرة» يجب التصدّي لها.