الشوارع خالية والأسواق مقفلة. المطاعم والمقاهي والحانات كذلك. ذلك أمر لم يحدث في كل الحروب التي مرّت على لبنان. في عز الانهيار المالي والاقتصادي اقتحم كورونا يوميات الناس. لم تعد المعيشة هي الأولوية بل العيش. المصائب التي ابتُلي بها اللبنانيون دفعة واحدة لا تحصى. عزاؤهم الوحيد في كورونا أنه لم يخصّهم وحدهم. 161 دولة تعيش المعاناة نفسها.التركيز على كورونا غطّى على أخبار الانهيار الاقتصادي المستمر، لكن لا هذا انتهى ولا ذاك. على العكس. كورونا لا يفتك بالبشر فقط. الاقتصاد أبرز ضحاياه أيضاً، لكن التعبئة العامة لا تشمله. الاقتصاد بكل مآسيه وإفلاساته لم يكن قد وصل إلى القعر. كورونا يقوده إلى الهاوية بسرعة فائقة. لكن مع ذلك، لم يُسمع صوت التجار أو أصحاب المصالح السياحية يتذمرون من قرار الإقفال، كما جرت العادة مع كل إضراب قطاعي ولو ليوم واحد. هؤلاء يدركون أن لا بديل من هذا القرار لوقف انتشار الفيروس. كذلك يدركون أنهم حتى لو لم يقفلوا فستكون النتيجة نفسها. اليوم الذي سبق الإقفال لم يكن أفضل حالاً. مراكز التسوق كانت مدن أشباح وستبقى، وسط توقعات بأن تمدد فترة الإقفال إلى ما بعد نهاية الشهر. تلك أزمة حقيقية. أن لا يعرف أصحاب المحال والمطاعم متى يفتحون أبوابهم يعني أن قدرة الاحتمال التي كانت قد تضاءلت بعد أزمة السحوبات النقدية، بدأت تتلاشى. يختصر رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس الوضع بالإشارة إلى أن «القطاع يحتضر». بشكل أدق، يقول إن رقم الأعمال الذي كان يصل إلى 75 مليون دولار يومياً قبل شح الدولار انخفض ما بين 95 و100 في المئة. الانخفاض كان بدأ منذ العام 2017، حينها كانت الأزمة هيكلية على حدّ قوله، قبل أن تتحول إلى أزمة مصيرية في العام 2019، بعد القيود المصرفية التي استتبعت بفترة إقفال طويلة، لتتحول اليوم إلى أزمة وجودية.
يدرك التجار، كما أصحاب المطاعم، أن لا شيء يمكن القيام به حالياً إلى حين احتواء الفيروس. لكنهم يأملون بدء إجراءات جدية لإنقاذ هذه القطاعات بعد انتهاء الأزمة. وبالرغم من أن أحداً لا يدرك كم ستمتد فترة الإغلاق، إلا أن ثمة اقتناع لدى التجار بأن لبنان صار حالياً فاقداً للمناعة الاقتصادية كما الصحية. الأخطر أن لا حلول في الأفق، وسط توقعات بأن تمدد فترة الإقفال. لكن التجار يأملون إيجاد صندوق خارجي يؤمن الأموال اللازمة للاستيراد تتعاون على تمويله الدول الأوروبية التي لها مصلحة في استمرار التبادل التجاري (تصدّر بضائع بنحو 8 مليارات يورو إلى لبنان) والصناديق الخارجية. لا أحد يتوقع أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه. حتى شماس، الذي يعدّ أحد وجوه النموذج الاقتصادي، لم يعد مقتنعاً بإمكانية استمرار هذا النظام كما عُرف سابقاً. يؤكد أن المطلوب تفعيل الإنتاج المحلي وزيادة التصدير، مقابل تخفيض فاتورة الاستيراد إلى النصف، على سبيل المثال، لردم الفجوة الهائلة في الميزان التجاري. لكنه يؤكد أيضاً أن هذا لا يعني أن ينخفض الاستيراد إلى الصفر. ذلك قد يؤدي إلى أزمة اجتماعية كبيرة، بسبب وجود 27 في المئة من القوى العاملة في القطاع التجاري. ولذلك، «علينا أن نسهم في تخفيض العجز، من دون أن نلغي مصالح قائمة على الاستيراد».
باختصار، يقول شماس إن القطاع التجاري وصل إلى حالة الموت السريري، والأمر ليس مرتبطاً بما نتج عن انتشار فيروس كورونا. لكن ما حصل أن قدرة الصمود انخفضت من أشهر إلى أسابيع، إذ إن «كل يوم إغلاق يوصلنا إلى النهاية».
بالنسبة إلى نقيب أصحاب المطاعم والمقاهي والباتيسري طوني الرامي الوضع ليس مطمئناً. والأمر يعود إلى ما قبل كورونا أيضاً. تكفي الإشارة إلى أن 785 مؤسسة سياحية أقفلت أبوابها ما بين الأول من أيلول 2019 ونهاية كانون الثاني 2020. ذلك يعود إلى ثلاثة مقومات أساسية فقدها القطاع السياحي: القدرة الشرائية، السيولة والعامل النفسي. وهي كلها أدت إلى تراجع حاد في عمل القطاع، قبل أن يضاف إليها كورونا.
70 مليون دولار معدل الدخل الفائت يومياً


بالرغم من الواقع المرير لتلك القطاعات، إلا أن الرامي لا يناقش في صوابية قرار الإقفال. يعتبر أنه لا بديل منه للمحافظة على صحة الناس والعاملين وما تبقى من سمعة القطاع، الذي يؤمن 25 ألف وظيفة من إجمالي 400 ألف وظيفة في القطاع الخاص.
ماذا بعد كورونا؟ بحسب المعطيات المتوافرة، فإن وزير السياحة يعكف بالتعاون مع العاملين في القطاع السياحي على إعداد خطط قصيرة ومتوسطة المدى لإعادة إحياء القطاع، ما إن تنتهي أزمة فيروس كورونا. على المدى القصير، يجري البحث في إمكانية تقديم إعفاءات ضريبية وتسويات مالية، مع السعي إلى إعادة جدولة القروض المصرفية. أما على المدى المتوسط، فالعمل يفترض أن يتركز على فتح وجهات سياحية جديدة وتحفيز السياحة مجدداً، على أمل العودة إلى رقم المليوني سائح سنوياً.
كل تلك الخطط تصطدم حالياً بواقع اسمه كورونا. لا مجال للعمل قبل القضاء على الوباء. فإضافة إلى الانكماش السابق على انتشار الفيروس، مع إغلاق معظم القطاعات الخدمية، صار يمكن الحديث عن أرقام تقريبية للخسائر. وإذا كان الناتج المحلي قد بلغ في العام 2019 نحو 55 مليار دولار، فهذا يعني أن الناتج المحلي اليومي يقدر بـ220 مليون دولار. صحيح أن ليس كل القطاعات تضررت من جراء الأزمة، ولا سيما منها قطاعات الزراعة والصناعة والنقل والصحة، إلا أن قطاعات أخرى كالسياحة والخدمات قد شهدت تراجعات مخيفة. الرقم الأكثر تداولاً لتراجع الناتج المحلي بعد الأزمة النقدية والاقتصادية، وقبل كورونا، هو 10 في المئة. لكن بعد كورونا ثمة أرقام أولية تشير إلى تراجع إضافي يصل معدله إلى 30 في المئة في اليوم. هذا يعني دخلاً فائتاً يقدر بـ70 مليون دولار يومياً.