يوم تشكّلت الحكومة، أراد الرئيس حسان دياب مهلة جدية لدرس ما يمكن إنقاذه. لم تكن الفرصة ليطلبها من خصومه المحليين. هو يعرف أن غالبية الطبقة السياسية ليست في وارد مساعدته. وجدت فيه ضيفاً ثقيلاً حملته رياح الانتفاضة الشعبية المترنّحة. لكن دياب كان يريد الفرصة من طرفين: واحد محلي، وهو الشركاء في الحكومة، وآخر خارجي، من العواصم التي تدّعي حرصها على قيام إصلاحات في لبنان.الجانب الخارجي لم يتأخر كثيراً في إعلان موقفه. الصمت الأميركي والسعودي لم يكن علامة رضى. كان موقف الرافض، لكن المنتظر لكي يكون الفشل على يد غيره. الأوروبيون حاولوا لعب دور الشرطي الجيد. جاؤوا مع ابتسامات ووعود. لكن في لحظة الحقيقة، كرروا الكلام الأميركي: مطلوب إصلاحات تقوم على فكرة أن اللبنانيين غير مؤهلين لقيادة بلدهم. وأن الوصاية المباشرة من المؤسسات الدولية هي الحل الوحيد المتبقي أمامكم. والعبارة المفتاح في كل ما قاله الأجانب: اذهبوا الى صندوق النقد!
داخلياً، بدت الحكومة في أيامها الأولى واعدة. النشاط الكبير لغالبية العاملين فيها دليل عافية. رئيسها لا يظهر طموحات من النوع الذي يميّز السياسيين عندنا. الرجل لا تظهر عليه أي علامات فساد. سلوكه الشخصي في مبنى السرايا ومع فريقه، يدل على احترامه القوانين. يتعرف على الدولة العميقة للفساد المنظم. وجده في كل زوايا السرايا، وفي كل المناقشات الجارية من حوله. لكن دياب، الذي اضطر إلى التعامل مع وزراء اختارهم غيره، بدا مرتاحاً الى قسم منهم. يقول عنه الوزراء إنه ليس فردياً في القرار. وقد يكون المسؤول الأول الذي يؤمن بالتفويض للآخرين لإنجاز الأعمال. الضغط لإنجازات لم يدفعه الى قرارات متسرعة. وضع الوجهة السليمة، من خلال تشكيل فرقة طوارئ عامة، تفرّعت عنها لجان متخصصة في الشؤون العالقة. كان الحضور في هذه اللجان يقتصر على فريق اختاره هو من المستشارين والمعاونين، وعلى الوزراء الجدد. لكن ممثلي الدولة والإدارة يحضرون من تلقاء أنفسهم، باعتبارهم من يشغل المناصب في الإدارات والمؤسسات المعنية.
لم يكن حسان دياب ولا فريقه الوزاري بحاجة الى خريطة طريق للتعرف إلى ممثلي القطاع العام. لكن الذي تعرف دياب إليه سريعاً هو الفريق المزروع داخل حكومته، ومع ذلك، فهو لم يقع تحت الضغط، الى أن بدأت المشكلة:
في ملف الطاقة والكهرباء، تبيّن سريعاً أن اللوبي القوي داخل الدولة لا يزال عاملاً بنفس الأجندات. خلافات حول مراكز محطات التغويز وخلافات وشكوك حول الشركات التي تنوي إقامة معامل الكهرباء. وخلافات حول آليات العمل، وجمود بانتظار الدعم الخارجي. وعندما فتحت كوة من خلال رسائل إيجابية بعث بها الفرنسيون والألمان، جاءت المياه الباردة أخيراً لتقفل الأبواب: الأجانب يريدون ضمانات مالية لأجل تحصيل حقوقهم في مرحلة البناء وفي مرحلة التشغيل. وهم يبحثون ضمناً عن شركاء محليين يقدرون على تحمل المخاطر الناجمة عن ضعف إدارة الدولة في الجباية من جهة، وعن تراجع قوة العملة المحلية من جهة ثانية.
وقد أقرت الحكومة أمس تكليف وزير الطاقة القيام بحملة اتصالات تشمل سفراء عدد من الدول لأجل البحث معها في أمر العرض على شركات كبيرة فيها تقديم عروض لأجل إنشاء المعامل وإقامة محطات مؤقتة وتوفير التمويل مع فترات سماح وعملية جدولة للدفعات. ويفترض أن تتم هذه المفاوضات من دولة الى دولة وبإشراف رئيس الجمهورية ميشال عون بحسب ما يسمح له الدستور بإدارة عمليات التفاوض الخارجي، على أن يعود الوزير الى الحكومة خلال أسبوعين بأجوبة وعرض عام حتى يتخذ القرار المناسب.
في الملف القضائي وملاحقة الفساد، تبين أنه ممنوع المسّ بأحد من رجالات الدولة العميقة في كل القطاعات. ولم يقدر القاضي علي إبراهيم السير في مشروع استدعاء ومحاسبة المرتكبين بحق أملاك الدولة العامة والبحرية أو تهريب الأموال وإدارة القطاع المصرفي وملف المتعهدين العاملين مع الدولة أو الذين يتولّون استيراد النفط والمواد الأساسية من دواء وقمح، وراكموا ثروات بعشرات مليارات الدولارات. بينما تصرّف النائب العام التمييزي غسان عويدات، بطريقة مريبة عندما شجع القاضي إبراهيم على السير في إجراءات ضد المصارف، لكنه عاد وأنّبه وتراجع هو عن الخطوة، بعدما كان قد استردّ أصلاً كل الملفات الأخرى. وقبل بلعب دور الوسيط مع جمعية المصارف، وهو دور يمكن أن يتكرر مع رجال الأعمال والمتعهدين والمستوردين.
في مواجهة أزمة كورونا، تبذل الحكومة أقصى ما يمكنها القيام به. لكنها لا تقوى على ملاحقة قطاع المستشفيات والتأمين، حيث السرقات وقلّة الأخلاق معاً. ها هو المستشفى الحكومي يصارع وحده. لا تطوّع فعلياً من خارج الجامعة اللبنانية. والدولة لا تزال تعفي تلك المؤسسات الخاصة من بعض الضرائب بحجة أنها مؤسسات ذات منفعة عامة. ولا تزال تصرف المنح المدرسية للذين يرسلون أولادهم الى الجامعات الخاصة، تاركة التعليم الرسمي بلا حول وبلا قوة.
لكن المشكلة الأكبر متصلة بالوضع المالي، حيث تظهر الأيام الأخيرة أن الرئيس دياب وكأنه تعرض لعملية تطويق من تحالف الطبقة السياسية الفاسدة وحزب المصرف وجماعات الضغط العاملة مع المؤسسات المالية الدولية... فما الذي يحصل؟
عملياً، كان للقطاع المالي الخاص، أي المصارف حصتها الوازنة في الحكومة الجديدة. ثلاثة أعضاء ومديرين في مجالس إدارات القطاع المصرفي يتوزعون المقاعد الأمامية:
دميانوس قطار، (حصة الرئيس حسان دياب) المرشح الرئاسي وعضو مجلس إدارة مصرف الاعتماد اللبناني، ووزير المال الذي لم يترك بصمة لافتة في حكومة سابقة.
ثلاثة أعضاء في مجالس إدارات القطاع المصرفي يتوزّعون المقاعد الأماميّة للحكومة


غازي وزني، (حصة الرئيس نبيه بري) الخبير الاقتصادي الذي لا يعرف أحد شيئاً عن منجز واحد له، وعضو مجلس الإدارة في مصرف إي بي إل، وصديق كبار المصرفيين في لبنان.
راوول نعمة، (حصة الرئيس ميشال عون) الموظف المصرفي المتنقل من مصارف سوسيتيه جنرال إلى اللبناني للتجارة إلى البحر المتوسط، والذي لا يهتم أصلاً بشؤون وزارته اليوم بقدر ما يهتم بـ«القضايا الكبرى» المتمثلة في الشأن المالي.
هؤلاء الثلاثة، عملوا بجهد من اليوم الأول للإمساك بقرار أي لجنة يشكلها رئيس الحكومة لمتابعة بنود الخطة الشاملة. وهم أنفسهم الذين ينشغلون فعلياً اليوم بأمر المناصب الشاغرة في مصرف لبنان (نواب الحاكم، والمفوض، ولجنة الرقابة) والترشيحات الصادرة عنهم، تمثل وجهة النظر نفسها. تمثل العقلية التي يريدها رياض سلامة وجمعية المصارف سائدة الى يوم الدين. والمرشحون هم أنفسهم عاملون في المصارف المسؤولة عن الأزمة. ويعملون عند المرجعيات السياسية والمالية والمصرفية ذاتها.
وأمس حاول وزني ثني الوزراء عن المطالبة بتقديم لائحة المرشحين للمناصب. وقال إنه الوزير المعني ولا يحقّ لأحد التدخل في صلاحياته. لكن رئيس الحكومة طلب منه أن يزوره السبت في مكتبه ومعه لائحة المرشحين، وخصوصاً أن غالبية الوزراء أبلغوا دياب كما وزني أنهم لن يسيروا بالتعيينات قبل الاطلاع عليها بأسبوع على الأقل، وأن القرار سيصدر عن مجلس الوزراء.
لكن عمل هؤلاء لا يقتصر على هذا البند. فهم، يسعون الى تقطيع أوصال الخطة. فقادوا أولاً حملة الموافقة على دفع الديون الى الصناديق الاستثمارية في الخارج. وما كان أيّ منهم يتراجع إلا بسبب المناخ العام الذي ساد في الحكومة أو في البلاد. ثم هم الذين لا يثقون إلا بالشركات الأجنبية. وبينما كان يفترض بالاستشاريين المالي والقانوني للحكومة العمل على التفاوض مع الدائنين في الخارج، فإن هذا الفريق الوزاري يريد أن يترك لهؤلاء الاستشاريين مهمة وضع الخطط الشاملة لإنقاذ البلاد. وهؤلاء، دعموا فكرة فصل مشروع قانون الكابيتال كونترول عن الخطة الشاملة. وهم الذين لا يقومون بدورهم في إجبار رياض سلامة على تقديم الجردة الفعلية لموجودات مصرف لبنان ومصارف لبنان في لبنان وفي الخارج. وهم أنفسهم الذين يهلّلون لضرورة العمل مع صندوق النقد الدولي، وهم أنفسهم الذين يجعلون رياض سلامة يخرج من كل اجتماع له مع الرئيسين عون ودياب بابتسامة المنتصر: الشباب ماشي حالن!
وتصل الوقاحة بهذا الفريق لأن يستعين بقانونيين يعملون في خدمة المصارف لإعداد مشروع الكابيتال كونترول والذي كما ورد في نسخه الأولى يخدم أصحاب الأموال فقط، ويوفر التغطية الكاملة على ما يقوم به مصرف لبنان وجمعية المصارف. وهو الأمر الذي يدافع عنه وزير المال الذي وصل به الأمر إلى حدّ رفضه توجيه أي نقد لحاكم مصرف لبنان، ودافع عن منحه صلاحيات استثنائية لإدارة هذه المرحلة. ويعمل وزني اليوم بالتعاون مع نعمة وقطار ومستشارين في مصرف لبنان على جلب المزيد من الضغوط عبر الشركة الاستشارية المالية الفرنسية.
وكان رئيس الحكومة قد استقبل، أول من أمس، الوزيرين عماد حب الله ورمزي مشرفية اللذين أبلغاه أنه لا يمكن السير بالمشروع كما هو معروض في جلسة واحدة. واتفق معهما على أن يتمّ إعداد جميع الملاحظات وإرسالها الى السرايا الكبيرة خلال الأيام الأربعة المقبلة، على أن يصار الى إعادة صياغة المشروع الثلاثاء المقبل وتوزيعه على الوزراء بقصد درسه وإقراره في جلسة الحكومة الخميس المقبل.
معروف أن فريق لازارد مؤلف من قسمين: قسم مختص بإعادة هيكلة الديون السيادية، وقسم مختص بالمسائل والمؤشرات المالية والاقتصادية. ويرأس الفريق لبناني اسمه فرنسوا خياط، ومعه عدد من المسؤولين والمساعدين؛ بينهم لبنانيون. مهمتهم تقضي بتحضير ملف عن لبنان سيعرض على الدائنين يتضمن المؤشرات التي دفعت الدولة إلى إعلان التخلف عن السداد ورؤيتها للخطوات التي يجب القيام بها من أجل استعادة السيطرة على الدين العام وإعادة الهيكلة بما يتناسب مع هذا الهدف. هذا الملف سيكون أساس التفاوض مع الدائنين. ومشكلة هذا الملف غياب الأرقام التي يفترض أن تبنى عليها عملية إعادة الهيكلة. إذ لم يتسلّم أحد من مصرف لبنان أرقاماً دقيقة ونهائية. مع الإشارة إلى أن فريق لازارد وكليري غوثليب يعمل من خارج لبنان بعدما غادر بسبب أزمة «كورونا»، وتجرى غالبية الأعمال عبر اتصالات هاتفية.