ليس وباء «كورونا» هو المؤشر الحقيقي على الاتجاهات الحقيقية للكوارث. فهو قابل للسيطرة فعلاً، ولن يحصد ضحايا أكثر من الأمراض السرطانية وارتفاع ضغط الدم وأمراض السمنة وانسداد الشرايين… التي هي بمنزلة أوبئة العصر الحقيقية الجديدة.لعل كارثة انتشار فيروس «كورونا»، أو شبيهه، لناحية النوعية والشمولية وعدد الضحايا، لا تقارن - على المستوى العالمي - بالكوارث المنتظرة لقضايا مثل تغير المناخ التي يمكن أن تهدد وجود النوع الإنساني نفسه. وهي كوارث لن تنفع معها أساليب وقاية استثنائية أو حجر منزلي أو اختراع لقاح جديد. إذاً، لا خوف على الدول - مهما كانت صغيرة وضعيفة - إذا أرادت أن تعدّ العدة لاحتواء أنواع كهذه من الفيروسات، كما فعلت سابقاً مع «سارس» وغيره. السؤال الأخطر: كيف تستعد هذه الدول، نفسها، لمواجهة التغيرات المناخية الحتمية، لا سيما أن العد العكسي للبدء بتطبيق اتفاقية باريس المناخية قد بدأ، من دون أن يبدو في الأفق أن العالم ودوله احتاطا لهذه القضية الكبرى، كما تحتاط الآن لفيروس «بسيط»؟!
كان متوقعاً، على أبواب موعد بدء تطبيق اتفاقية باريس المناخية نهاية هذا العام، أن يُستنفر العالم والدول والمنظمات الدولية وتُعلن حالة طوارئ عالمية تؤخذ فيها إجراءات تنفيذية وتوضع سياسات للحد من الانبعاثات العالمية المسببة لتغير المناخ ولكثير من الأمراض القاتلة والكوارث المناخية، وللتكيف مع ظواهرها الفيضانية المنتظرة. وكان منتظراً أن تمثل هذه القضية وخلفياتها دافعاً كافياً للتفكير في ضرورة إعادة النظر في النموذج الحضاري المسيطر، المولّد لمثل هذه الآفات الكبرى والتهديدات لأسس الحياة على هذا الكوكب.
أهم التغييرات المطلوبة لمواجهة الكوارث المنتظرة هي التغيير الجوهري في قيم العصر، لا سيما مفاهيم مثل التنمية والديمقراطية. فكرة التنمية جرت محاولة لتدارك كوارثها، شكلياً، حين ابتدع العالم فكرة «التنمية المستدامة»، في محاولة لمعالجة آثارها المدمرة. ومع تجاوز الانتقادات لعدم كفاية آليات الانتقال إلى التنمية المستدامة حول العالم، لا يمكن إلا أن نلاحظ كيف وقف العالم الديمقراطي سداً منيعاً دفاعاً عمّا كان يعتبره مكتسبات حقّقها يوم انتصر على الأنظمة الديكتاتورية والقمعية، وأصبح لكل فرد رأيه وشخصيته وحقوقه... من دون أي مراجعة لحدود هذا الحق! تماماً كما لم تؤخذ في الاعتبار حدود التنمية والآثار المدمرة لزيادة الإنتاج والاستهلاك. وقد تبين في الفترة الأخيرة أن الشركات المستثمرة الكبرى والأنظمة الليبرالية والرأسمالية التابعة لها، ليست الوحيدة المعاندة لكل تغيير، بل الأنظمة الديمقراطية أيضاً. فالكثير من الحكومات حول العالم الممثلة للأحزاب والكتل البرلمانية المنتخبة، لا تجرؤ على سياسات تصنّف «غير شعبية»، قد تكون ضرورية للإنقاذ، تماماً كما حصل في فرنسا مؤخراً حين رفعت أسعار الوقود لتقليل الانبعاثات وظهور حركة القمصان الصفر.
في لبنان الآن حكومة جديدة تعهدت بأن أعضاءها لن يترشحوا للانتخابات النيابية المقبلة، كمقدمة لاتخاذ قرارات غير شعبية. هذا الإجراء - الموقف، لن يكون كافياً إذا لم يأت من ضمن رؤية جديدة ومتكاملة واستراتيجية للتنمية المستدامة، ومن دون إجراء تغييرات جذرية في الرؤية الاقتصادية، مع العلم بأن الالتزام بمبادئ الاستدامة يعني الابتعاد أولاً عن الاستدانة، كما يعني التراجع عن معظم الخيارات الخاطئة في القطاعات كافة.
واذا أرادت الحكومة أن تكون غير شعبوية، عليها أن تكون أيضاً غير ديمقراطية في قراراتها، لا سيما تلك المصيرية منها، أي المتعلقة بمصير الأجيال القادمة وديمومة الموارد أو استدامتها، ووضع مبدأ العدالة البيئية مباشرة بعد مبدأ الاستدامة، كمبادئ أساسية أو كعنوان للمرحلة المقبلة على خيارات قيل عنها إنها ستكون صعبة. هذا الموضوع يطبّق على خيار التنقيب عن الغاز والنفط أولاً، بوصفه الموضوع الأبرز المراهن عليه كمنقذ من معظم الأزمات التي وصلنا اليها، بسبب السياسات السابقة. فمجرد تطبيق مبدأي الاستدامة وحفظ حقوق الأجيال القادمة والعدالة البيئية، يفترض إعادة النظر في كل التقييم البيئي الاستراتيجي لهذا الخيار. فهل من العدل أن يستهلك جيل واحد (قد لا نجد أعطل من هذا الجيل) الثروة النفطية والغازية التي تكوّنت عبر ملايين السنين، وأن لا نترك شيئاً للأجيال المقبلة، لكون هذه الموارد تصنّف غير متجدّدة، في حين تركنا تلك الطاقات المتجددة مثل الشمس والهواء وقوة جريان المياه من دون اهتمام يذكر؟! وضمن أي قواعد ديمقراطية يحصل كل ذلك؟ أليست أكثرية اليوم هي أقلية بالنسبة الى الأجيال المقبلة؟ كيف نقرر عن غيرنا، وكيف نتخذ خيارات ملزمة لغيرنا بشكل ديكتاتوري ونفعي وأناني بهذا الشكل الخطير؟ ثم كيف نوفّق بين التعهد بمحاربة تغير المناخ ونسعى الى التنقيب عن النفط والغاز، هذه «الموارد» الملعونة التي باحتراقها لتوليد الطاقة، تعتبر العدو الرقم واحد للمناخ والصحة العامة ولديمومة الحياة؟!
لا يفترض أن تنسينا قضية «كورونا»، المرحلية في تأثيرها وتهديدها، قضايانا الكبرى الأكثر خطورة والمهددة للنوع. فالوباء ليس أخطر من الفناء. كما يفترض أن نتذكر أن الكثير من الأمراض (المعولمة) المشكو منها اليوم، لم تكن سريعة الانتشار، إلا بقدر هوسنا بتبنّي تنمية سريعة الإنتاج والربح، وثورة تكنولوجية سرّعت الانتقال والاتصال… لتسريع الربح أيضاً. فإذا كان لا بد من دفع ضريبة على كل خيار، وكان هناك من لا يزال ينادي بالعدالة الضريبية، فعلينا أن نعيد النظر في القواعد الديمقراطية والسياسية، ونعرف أي ضريبة يمكن تفاديها وأخرى لا مفر من دفعها، على قاعدة أن لا تكون الضريبة المدفوعة قاتلة والثمن أثمن من المضحّى به.