يقول عاملون في عدد من المصارف إن إداراتهم قرّرت أن توقف عمليات السحب بالدولار بذريعة عدم القدرة على شحن الدولارات الورقية من الخارج بسبب انتشار فيروس ”كورونا“ والصدمة التي أحدثها في اقتصادات العالم وأثرها على النشاطات التجارية الخارجية. ويشير هؤلاء إلى أن إداراتهم قرّرت أيضاً التشدّد في مسألة تحصيل السندات الشهرية المترتبة على الزبائن، رغم أن مصرف لبنان أصدر التعميم 547 الذي يتيح للمصارف الاستدانة بالدولار من مصرف لبنان بفائدة صفر لمدة خمس سنوات مقابل تأجيل القروض لثلاثة أشهر.لم يعد مستغرباً إصرار المصارف على هذا السلوك، إنما المستغرب أن تكون ردّة فعل المودعين والزبائن هادئة نوعاً ما. فالجشع الذي أوصل المصارف إلى تبديد ودائع الناس، هو نفسه الذي يقودها اليوم. عملياً، ودائع الناس، أو ما تبقى منها هي مجرّد أرقام على شاشات موظفي المصارف. فمن أصل ودائع بالدولار بقيمة 120 ملياراً، توظّف المصارف نحو 84 ملياراً لدى مصرف لبنان وهو أقرضها 7 مليارات دولار، أي أن صافي هذه العملية يبقي للمصارف بذمّته 77 مليار دولار. هو ليس لديه منها سوى 22 مليار دولار، بحسب أرقام صادرة عن وزارة المال أخيراً، ما يعني أن الودائع التي تبخّرت تبلغ 55 مليار دولار.

الخصخصة ستكون أحد الشروط الأساسية لصندوق النقد لإنقاذ المصارف (هيثم الموسوي)

في الواقع، لم يعد لدى المصارف أي ودائع بالدولار. رساميلها البالغة 21 مليار دولار تبخّرت. وإذا أضفنا إلى هذه المعادلة، الودائع المتعثّرة في السوق (هناك 30 مليار دولار قروض بالعملة الأجنبية) والتي بلغت وفق حسابات لجنة الرقابة على المصارف 20%، فإن ذلك يعني مزيداً من تبخّر الرساميل بقيمة 6 مليارات دولار ناتجة من القروض بالعملة الأجنبية فقط. وإذا أضفنا كذلك إعادة هيكلة الدين العام بالدولار الذي تحمل المصارف منه نحو 11 ملياراً، فإن فجوة الرساميل ستكون أكبر. حسبة المصارف أن حاجتها للرسملة تفوق 10 مليارات دولار (فوق الرسملة المطلوبة منها حتى نهاية حزيران المقبل بقيمة 3.9 مليارات دولار)، وذلك إذا تمكنت من وقف سحب الدولارات وحوّلت الودائع بقوّة الأمر الواقع إلى الليرة اللبنانية بسعر صرف لا يتجاوز 2000 ليرة لكل دولار.
في ظل هذه الوقائع، تبرّر المصارف لنفسها اللجوء إلى خديعة وقف سحب الدولار، رغم أن خزائنها فيها الكثير من الدولارات الورقية. بحسب إحصاءات شبه رسمية، إن لبنان يستورد سنوياً نحو 5 مليارات دولار من الأوراق النقدية، كما أن كميات هائلة من الدولارات النقدية المخزّنة لدى تجار غير نظاميين أدخلت إلى المصارف في الأشهر الأخيرة، إلى جانب الكثير من التدفقات التي تأتي بطرق غير نظامية. لكن ما لا تقرّ به المصارف، أن ودائعها لدى المصارف المراسلة باتت سلبية بقيمة 1.8 مليار دولار، أي لم يعد لديها القدرة على تسديد ثمن الدولارات التي يمكن شحنها من الخارج. اعتراف كهذا يعني أنها مفلسة.
هناك ذريعة أخرى تستعملها المصارف من أجل تبرير وقف إعطاء الزبائن دولاراتهم المودعة لديها: سحب مشروع الـ»كابيتال كونترول“ من التداول. ضمن الاعتبارات التي تروّج لها، أن هذا المشروع كان يتضمن بنداً يعطي المودعين ودائعهم بالليرة بسعر 2000 ليرة للدولار. فهل كانت هناك حاجة فعلية لهذا المشروع؟
تتفاوت الأجوبة على هذا الأمر. فهناك من يقول إن المشروع كان عبارة عن ”تسوية“ للقيود والضوابط التي فرضتها المصارف بشكل استنسابي على المودعين. وهناك من يقول إن المشروع كان سيؤمن معالجة جزء من مشكلة إعادة هيكلة القطاع المصرفي التي تشمل مصرف لبنان.
في المقابل، هناك وقائع تشير إلى أن الأمرين ينطويان على عملية شطب ودائع. أي أن الحلّ سيكون على حساب المودعين، سواء عبر عملية مباشرة (هيركات)، أو عبر عملية مبطنة تتضمن اللعب على سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن أن يكون الحلّ على حساب المودعين بدلاً من المساهمين الذين أساؤوا الائتمان واستخفوا بودائع الناس وجنوا أرباحاً طائلة على حساب الودائع. على المصارف، قبل أن ترفض أو تساوم ”أن تضع على الطاولة فوراً ما لا يقل عن 10 مليارات دولار من أموالها الخاصة حتى يبدأ الحديث عن حلّ»، يقول أحد الخبراء. ما تريده المصارف أن يكون الحلّ على حساب المودعين. لذا، تتقاذف المسؤولية مع قوى السلطة. تتّهم السياسيين بأنهم مصدر الأزمة، مقابل اتهامهم لها بسوء الائتمان. انطلاقاً من هذه الوقائع، يمكن تفسير طرح مشروع الكابيتال كونترول على الطاولة ثم سحبه في ظروف غامضة. الكل يريد التنصّل من المسؤولية. لا المصارف ومساهموها يقبلون بالتخلي عن قسم من الأرباح التي جنوها في السنوات الماضية، ولا السياسيون يريدون تحمّل مسؤولية قرار تشريع الكابيتال كونترول حتى لا يكون له تداعيات ”شعبوية“ على إنقاذهم لها حتى لو عنى ذلك إنقاذ صغار المودعين.
يدخل إلى لبنان سنوياً نحو 5 مليارات دولار ورقية والمصارف لديها الكثير


الهدف من هذه اللعبة دفع لبنان نحو أحضان صندوق النقد الدولي. ثمة من قرّر استغلال الفرصة لاستقدام الصندوق. وبدأت المفاوضات سرّاً عبر المستشار المالي لعملية إعادة الهيكلة: شركة لازارد الفرنسية. ما تسرّب عن هذه المفاوضات أن صندوق النقد الدولي يوافق على إمداد لبنان بما بين 10 مليارات دولار و15 ملياراً بشرطين: أن تكون هناك خصخصة شاملة لأملاك الدولة، وأن يتم ربط عملية إعادة الهيكلة بالخصخصة، أي سيحصل المودعون مقابل قص ودائعهم، على حصّة في أملاك الدولة التي ستباع. ستباع هذه الأملاك بدولارات غير ذات قيمة. بدولارات محجوزة في النظام لا يمكن استعمالها إلا مثل الليرة اللبنانية.
إذاً، ستباع أملاك الدولة بسوق النخاسة. سيتم اقتطاع الودائع بشكل عميق لتغطية فجوة النقص بالدولار في النظام المصرفي (مصرف لبنان، المصارف) مقابل حصص بصندوق سيادي توضع فيه أملاك الدولة. المشكلة الأساسية في هذا الطرح لا ترتبط بالمساواة بين صغار المودعين وكبارهم فحسب، بل بأصل وصاية صندوق النقد الدولي على لبنان ودفعه الدولة إلى التخلي عن أملاكها بسعر بخس. فمن جهة، سنكون مرهونين للدولارات التي سيتصدّق علينا بها صندوق النقد الدولي. ستصبح هذه الدولارات هي الأوكسيجين الوحيد المتاح لنا. هو وحده سيقرّر أننا التزمنا بخطّته، وأننا نستحق كل دولار لنستورد به حاجاتنا الأساسية من أكل ودواء ووقود وسواها. سيصبح شريان حياتنا مرتبطاً بما يقرّره الصندوق. ومن جهة ثانية، لن يكون لدينا ما نبيعه لاحقاً حتى نخرج من هذه العبودية لأن هذا الحلّ ليس سوى عملية إخضاع سياسي ستنتج أزمات متواصلة. فهل ثمة من يعتقد بأن المعالجة المحاسبية ــــ المالية ستوفّر لنا تدفق الدولارات من خارج وصاية الصندوق؟ حاجتنا للعملة الأجنبية هي أساسية من أجل استيراد الأساسيات. هذه الدولارات، في ظل أزمة كورونا، قد لا تكون متوافرة كالسابق. حتى التعويل على دولارات المغتربين لم يعد كافياً في ظل أزمتَي النفط وكورونا اللتين تؤثّران مباشرة على تحويلاتهم.



الدولار بـ 2900 ليرة
أمس ارتفع سعر الدولار في السوق المحلية إلى 2900 ليرة. هناك سببان لهذا الارتفاع. الأول يتعلق بقرار المصارف وقف إعطاء الزبائن دولارات نقدية، والثاني يتعلق بمطاردة الصرافين وإلقاء القبض عليهم. الاثنان يشيران إلى أن الطلب يزداد على العملة الورقية الخضراء، وخصوصاً في ظل أزمة التعطيل الاقتصادي والتباعد الاجتماعي الناتج من انتشار فيروس «كورونا»، وهذا بدوره يعني أن العملة المحلية تتعرض لضغوط أكبر وتنخفض قيمتها أكثر فأكثر.