لم تخرج «خطة الطوارئ الزراعية» التي اقترحتها وزارة الزراعة لمواجهة أزمة الغذاء المقبلة عن التفكير التقليدي حيال هذا القطاع، مع إضافات استدعتها تأثيرات جائحة «كورونا».الخطّة التي وُزّعت على الوزراء في جلسة الحكومة الاسبوع الماضي، لوضع الملاحظات عليها قبل نقاشها وإقرارها هذا الأسبوع، هدفها «تشجيع زيادة الإنتاج الزراعي المحلي لتحقيق الأمن الغذائي وتحقيق أقصى درجة ممكنة من الاكتفاء الذاتي في هذه الظروف الاستثنائية». وهي تنطلق من خطّتين: الأولى، وضعها الاتحاد الأوروبي للبنان عام 1999، وأخرى عملت عليها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) عام 2000، مع الاختلاف الهائل في الظروف والأرقام بين اليوم وقبل 20 عاماً.
ومشكلة الخطط «المستوردة» أن ما يحركها عقليّة «الزراعة التجارية» و«الربح» التي أسهمت - مع الإهمال الرسمي وغياب خطط الزراعة المستدامة - في تفكيك القطاع الزراعي وحدوث اختلال هائل في ميزان الصادرات والواردات الغذائية والزراعية، فيما كلّ المؤشرات التي بدأت تتضّح عن عالم ما بعد كورونا، تؤكّد أن أزمة الغذاء ستكون أخطر التحديات أمام الدول «الاتكالية» في إنتاج غذائها، والتي يحجز لبنان مكانة متقدمة فيها. هذه التحوّلات لا تستلزم خطّة تقليدية، ولو أنّها تتضمن بنوداً لتخزين كميات كبيرة من الحبوب، بل تتطلّب استغلال الوقت القصير المتاح للشروع في تحقيق زراعة مستدامة لتحقيق سيادة غذائية، واتخاذ خطوات جذرية تحاكي تجربة الكوبيين في تحويل الحصار إلى فرصة زراعية.
المشكلة الأخرى في روحية الخطّة، هي مراعاتها المزاج الرسمي الذي يتعمّد وضع السيادة الغذائية في أسفل الأولويات، أو حتى خارجها تماماً، ولا يزال مستعداً لهدر الأموال في قطاعات غير منتجة. لذلك، جاءت مطالب الخطّة خجولة، وموازنتها المرجوّة أكثر خجلاً، كما هي دائماً حال موازنات وزارة الزراعة (بين 1 و2 % من الموازنة العامة). وهذا يجعلها خطّة للنجاة لأقل من سنة بالاعتماد على استمرار استيراد اللوازم الزراعية من دون التفات إلى ضرورة التفكير في كيفية الاستغناء عن هذه المستوردات ومعها الأساليب الزراعية البالية المشبعة بالسموم، والتي تحتّم الاتكال على الخارج.
تتكوّن الخطة من 20 صفحة، وتنقسم إلى خمسة محاور: المحافظة على الكميات المنتجة من المساحات المزروعة وجودة الإنتاج الزراعي النباتي وزيادة المساحات الزراعية وزيادة الانتاجية، التسويق الزراعي وحماية المستهلك، التعليم الفني الزراعي الرسمي والإرشاد الزراعي، دعم صغار ومتوسطي مربي الإنتاج الحيواني في لبنان، دعم مياه الري الزراعي، وانتهاج سياسة إعلامية زراعية.
في البند الأول، تركّز الخطّة «على توفير المدخلات الزراعية الأساسية للمزارعين للاستمرار في الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني». وهي مواد، بغالبيتها، مستوردة وتتحكّم فيها الشركات العالمية، كالبذور والأسمدة والمبيدات ومستلزمات البيوت المحمية ومعدات الري ومواد علفية وأدوية بيطرية ولقاحات وصيصان للفروج والدجاج البيّاض والمواشي الحية، وقفران نحل وبيوض وأعلاف اسماك وشباك صيد ومعداتها وغيرها، «من خلال فتح اعتمادات و/أو تغطية فرق سعر الدولار». وأرفق بالخطة جدولان يحدّدان المواد والمستلزمات المطلوبة وتقدير أسعارها، مجموع الأول 703 آلاف دولار والثاني 281 ألف دولار، بمجموع عام لا يصل إلى مليون دولار!
كما يندرج تحت هذا البند توزيع مساعدات عينية للمزارعين (لا سيما الصغار منهم) بقيمة 400 ألف ليرة للمزارع الواحد كدعم و/ أو تغطية فرق سعر الدولار لتأمين المدخلات الزراعية (بذور متنوعة للخضار والفاكهة، أسمدة متنوعة للخضار والفاكهة). وأبرز المشاكل في هذا البند هو تحديد المستفيدين، ومن هم صغار المزارعين، خصوصاً مع عودة كثيرين إلى الزراعة وعدم وجود إحصاءات دقيقة لدى الوزارة. كما يتضمن البند تقديم مساعدات عينية للجمعيات التعاونية و«تحفيزها لاستثمار كامل الحيازات القابلة للزراعة التي تقع ضمن نطاق نشاطها».
البند العملي الأبرز الذي تطرحه الخطة في مواجهة الظروف الحالية وتأثيرات كورونا على المدى القريب، هو «تأمين مخزون استراتيجي احتياطي كاف ومناسب يكون بمثابة خط دفاع وأمان اجتماعي غذائي لمواجهة توقف استيراد السلع الأساسية». ونقل معدّو الخطة، عن بيانات الجمرك اللبناني، أن «لبنان يستورد سنوياً من المواد الأساسية من القمح والأرز والعدس والفول والسكر والرز بحوالي مليار و225 مليون دولار». واقترحت الوزارة استيراد المواد مباشرة من دول المنشأ مع الأخذ في الاعتبار عامل الوقت واتجاه الدول المصدّرة للتوقّف عن التصدير. ومن الآن حتى الموافقة على الخطة وتوفير الاعتمادات اللازمة لها، تتخّذ الدول المصدّرة قرارات قاسية على صعيد وقف التصدير، لذلك لا بدّ من أن تكون عمليّة الشراء على وجه السرعة.
وفي الإطار نفسه، تدعو الخطة إلى «زيادة إنتاج القمح الطري لاستعماله في صناعة الخبز بزراعة حوالى 2600 دونم لانتاج نحو 2000 طن، وزيادة إنتاج القمح القاسي لاستعماله في صناعة البرغل والفريك بزراعة 2400 دونم لإنتاج نحو 1700 طن، وزيادة إنتاج الشعير لاستعماله كعلف بزراعة حوالى 170 دونماً لتأمين 65 طناً». كذلك تعتمد الخطة على «برنامج إكثار العدس والحمص والفول»، و«في حال تفاقم كورونا وتوقف التصدير إلى لبنان فإن خطة الطوارئ تقضي بالبدء بالزراعات الإنتاجية السريعة لتعويض الكميات المطلوبة كالمحاصيل المدرة للدخل (بندورة، خيار، كوسا) والمحاصيل الورقية (سبانخ، ملوخية، بقدونس)».
كما تتضمن الخطة برنامجاً لـ«توفير قروض صغيرة ميسرة للمزارعين لفترات متوسطة الأمد للمشاريع المنتجة التي تعنى بزراعات جديدة، كمحاصيل مدرة للدخل وتربية الأحياء المائية وغيرها من المشاريع القابلة للربح السريع»، و«برنامج دعم الصيد البحري ومساعدة السماكين، ودعم صغار ومتوسطي مربي الأسماك النهرية من خلال توزيع أعلاف وبذور سمك». وهنا، أيضاً، تؤكّد الخطة التزامها بمبدأ المشاريع ذات الربح السريع، والتي تعني تلقائياً اعتمادها على مواد مستوردة، فضلاً عن عدم تحديد ماهية «المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية»، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى مشاريع ذات جدوى لتأمين الاكتفاء الذاتي على مستوى العائلات عبر الزراعة في البيوت، وعلى مستوى الإدارات المحلية وعلى المستوى الوطني.
أما في قطاع الانتاج الحيواني، فيتبنّى البرنامج دعم زراعة الأعلاف كسياسة أساسية لهذا القطاع، و«صغار ومتوسطي مربي الأبقار الحلوب في لبنان... واستبدال بعض الزراعات التي يمثّل تصريفها مشكلة أساسية بزراعة الأعلاف، وتعزيز الكادر البشري لفنيي وزارة الزراعة من أطباء بيطريين ومهندسين زراعيين ومساعدين فنيين»، و«دعم صغار ومتوسطي مربي الأغنام والماعز من خلال توزيع لقاحات وأدوية بيطرية، والنحالين عبر توزيع قفران نحل وأدوات للنحالين».
وفي هذه السياسة واحدة من أبرز أزمات عقلية الربح السريع، والتي تعتمد على تربية الأبقار الأجنبية لإنتاجيتها العالية لكن مع أكلاف عالية من أدوية وأعلاف مكلفة ومستوردة، والاستغناء عن الأبقار البلدية التي تتحمل الظروف البيئية في البلاد وتقتات الأعشاب البرية مع إنتاجية مقبولة. فبدل أن تركّز الخطة على الدعم بالأدوية، من الممكن التفكير في تقديم أبقار بلدية أو أبقار بأسعار مخفّضة لصغار المزارعين لرفع كمية الانتاج المحلي وخفض فاتورة الاستيراد. كذلك الأمر بالنسبة إلى التركيز على زراعة الأعلاف التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه وأراضٍ خصبة لتأمين غذاء الأبقار، بل الترشيد باستهلاك اللحوم وتوفير المياه والاستفادة منها في زراعات تؤمّن جزءاً من البروتينات الناقصة.
الخطة لا تتضمن تغييرات جذرية وموازنة خجولة لا تتعدى مليون دولار


يعترف وزير الزراعة عباس مرتضى بوجود ثغرات عديدة في الخطّة، فضلاً عن أنه لم يمضِ على وجوده في الوزارة ثلاثة أشهر. يشرح الوزير ظروف وزارته وأزمة موازنتها، لا سيّما أنها الآن «لا تملك سوى رواتب الموظفين»، لكنه يؤكّد أن «الاجتماعات، الأسبوع الماضي، مع اللجنة النيابية الزراعية واللجنة النيابية الاقتصادية كانت إيجابية لتأمين موارد لتنفيذ خطة الطوارئ بأسرع وقت ممكن»، معوّلاً على تجاوب الحكومة واللجان مع خطته. وحول الثغرات، يقول مرتضى إن «هذه الخطّة عاجلة ومن الصعوبة أن تحدث فيها انقلاباً جذرياً، لكن يعمل فريق الوزارة مع خبراء من الجامعات وطلاب في كليات الزراعة على إعداد خطة خمسية تحتاج إلى نحو شهرين لإنجازها قبل عرضها لمناقشتها وإقرارها، وهناك يجب التركيز على الزراعة المستدامة». لا يملك الوزير جواباً عن الكلفة المقدّرة لتنفيذ الخطة، والتي تغيب عن الدراسة، مفضّلاً ترك الأمر لمجلس الوزراء، إلا أن التقديرات لا تتخطّى 30 مليار لبنانية!
وفيما لا يزال من الممكن إدخال تعديلات على خطة الطوارئ الحالية لتطويرها قدر الممكن، تبدو الخطة الخمسية مفصلاً مهمّاً ومسؤولية أمام الحكومة لتغييرات جذرية في السياسة الزراعية، لا أن تكون تكراراً للعقلية السابقة وللخطط الخمسية التي تماهت مع النظام الاقتصادي الحالي وكرّست الزراعة التجارية.