من باب الرغيف الأبيض، فتح أصحاب المخابز والأفران نار معركتهم في وجه الفقراء من المستهلكين الذين يستميتون لتحصيل الرغيف، والفقراء من «الموزّعين» الذين يشكّل رغيف الخبز أساس قوت يومهم، من دون اعتبار للُّقمة التي بالكاد يحصّلها الناس اليوم في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة.وفي استكمالهم لمسلسل الابتزاز الذي بدأه قبل أشهر، اتخذ كارتيل الأفران القرار بتصعيد المواجهة والضغط على وزارة الاقتصاد والتجارة من باب التوزيع، عبر فرض تسعيرة جديدة على الموزعين، في محاولة لنقل الخلاف القائم بينهم وبين الاقتصاد إلى موزعي الخبز وأصحاب المحال التجارية ونقاط البيع، والضغط لرفع سعر ربطة الخبز. هكذا، فوجئ الموزّعون فجر أمس برفع سعر ربطة الخبز الأبيض التي (كانت) تزن 1000 غرام من 1100 ليرة الى 1250 ليرة، علماً بأنه قبل القرار الارتجالي كانت حصة الموزع من ربطة الخبز 150 ليرة «يطير» منها نحو 8% كلفة البنزين وغيره من «الطوارئ». بعد القرار، «يفرض علينا أصحاب الأفران معادلة جديدة لا نستطيع نحن فرضها على أصحاب المحال التجارية الذين رفضوا التسلم بهذا السعر»، بحسب أحد الموزعين.
القرار وقع كالصاعقة على الموزعين الذين يعملون لحسابهم، ما دفعهم إلى الامتناع عن التسلّم والتسليم. أما من قام منهم بالتوزيع أمس، فقد تعرّضوا لرمي الحجارة من زملائهم «ممن يعملون في بعض الأفران الكبيرة»، على ما يقول رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبد الله. هكذا، نقل الكارتيل المعركة إلى «خارج الفرن»، مع أنه قبل ساعات كان قد وعد بالعودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الخميس الماضي، عندما قرّر هؤلاء الامتناع عن تسليم الخبز والاكتفاء ببيعه في الفرن بـ1500 ليرة. وقد دفعت التسعيرة الجديدة الموزعين الى إعلان إضراب مفتوح والاعتصام صباح اليوم أمام دوار الكفاءات حتى تحقيق عودة الحال إلى ما كانت عليه أو «تعمل الوزارة على حل الأمر»، على ما يقول أحد الموزعين. لكن لا يبدو أن التراجع وارد في حسابات الكارتيل، لأن المشكلة «ليست عندنا بل عند وزير الاقتصاد الذي يفترض أن يحلها»، بحسب نقيب أصحاب الأفران في الشمال طارق المير. الحل يكون بـ«إنصافنا في عملية فرق سعر الدولار» لأسعار المواد التي تستخدم في «العجنة». ويكون الإنصاف على قاعدة «توحيد سعر ربطة الخبز بالجملة والمفرق»، ما يعني رفع سعر الربطة إلى 1750 ليرة. والمبرر هنا أن «بقاء الربطة على السعر نفسه وتسليمها إلى الموزعين يعني أننا نخسر، خصوصاً أن ما نربحه قبل التسليم لا يتعدى الـ10%، وليس كما قالت الوزارة بحدود 22%».
الحلول لا تأتي بـ«الكسر»، على ما تقول نادين عون، المدير العام بالتكليف في مديرية الحبوب والشمندر السكري في الوزارة. وما هو ثابت في عرف الوزارة أن السعر الأقصى لربطة الخبز الأبيض هو 1500 ليرة والوزن الأدنى لها هو 1000 غرام، «وهي التسعيرة التي نضعها للمستهلك»، مشيرة الى أن اجتماعاً سيعقد مع أصحاب الأفران عند العاشرة من صباح الأربعاء لمناقشة الأوضاع. في انتظار ذلك، بدأ عدد من الأفران في منطقة الجنوب ببيع ربطة الخبز في صالة العرض بـ1500 ليرة، فيما بدأ عدد من المحال التجارية ببيع الربطة بـ1750 ليرة.
بعيداً عن التسعيرة، لا يحترم أصحاب الأفران وزن الربطة الذي وصل في معظم الأفران الكبيرة إلى ما بين 840 غراماً و920 غراماً كحدٍ أقصى، على ما يؤكد تقرير جمعية حماية المستهلك. رئيس الجمعية زهير برو أكد أن جولة لمفتشي الجمعية على الكثير من الأفران أظهرت أن «وزن الألف غرام سقط كلياً من الحسابات، وهذا الأمر لا تفسير له سوى أنهم يطمحون إلى ربحٍ أكبر»، وهم يخالفون بذلك القانون في ما يخصّ التلاعب بالأوزان، إضافة إلى مخالفتهم للمادة 50 من قانون حماية المستهلك التي تفرض على هؤلاء «بيع كل شيء عندهم، وإلا فالامتناع يعاقب عليه القانون». مع ذلك، لا يبدو أن أصحاب الأفران معنيون بالقوانين. ما يريدونه هو مضاعفة الأرباح، وهم الذين يربحون أصلاً ما يفوق ربحهم بالخبز الأبيض، خصوصاً أنهم لا يبيعون في أفرانهم ومحالهم فقط الخبز الأبيض، فهناك «الكعك والمناقيش والحلويات التي يتحكمون في سعرها كما يحلو لهم»، كما يقول عبد الله. كذلك فإن جشع هؤلاء دفعهم إلى «التجارة في كل شيء، حتى الخضروات والسكاكر»، على ما يقول رئيس بلدية الغبيري، معن الخليل. وقد وصل الجشع إلى حدود «فرض الأسعار كما يحلو لهم؛ فسعر أرخص كيلو كعك في أحد الأفران الكبيرة بلغ 7 آلاف ليرة». ويسأل: «من قال إن عجنة الكعك هذه مثلاً ليست من الخبز المرتجع؟». وفي هذا الإطار، عمدت أمس البلدية إلى إخطار المخالفين الذين امتنعوا عن تسليم الخبز للموزعين بالأسعار السابقة، وصادرت شرطة البلدية الخبز لتوزيعه على المحال التجارية.
في «المعركة»، يحاول كارتيل الأفران تحميل الرغيف الأبيض التكاليف كافة، من سعر السكر والخميرة والمازوت والكهرباء ومعاشات العمال وإقامات العمال الأجانب، علماً بأن تفنيد الكلفة بنداً بنداً، يسقط هؤلاء بضربة واحدة. ويمكن هنا الاستعانة بمثال واحد؛ ففي الوقت الذي ضمن فيه هؤلاء ضمن دراستهم السابقة «تكاليف إجازات وإقامات المئات من العمال»، كانت المفاجأة أن «العام الماضي بلغ عدد إجازات العمال الأجانب ما مجموعه 225 إجازة، 137 تنجز لأول مرة و87 إجازات مجددة»، يقول شحاده المصري، نقيب عمال الأفران والمخابز. وأكثر من ذلك، يلفت شحاده إلى أن «غالبية العمال غير مبلغ عنهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ولا حتى مسجلين»!