شاءت كورونا أن تزورنا خلال سنة دراسية مضطربة بعد ثورة 17 تشرين، لتفرض إقفال المدارس، واعتماد التعليم عن بعد (Online). بعض المدارس الخاصة، والقليلة العدد، لم تهدر وقتاً، بل بدأت بالتدريس بعيد إعلان التعليق، فيما الأكثرية الساحقة من المدارس الرسمية والخاصة الأخرى لم تكن مجهزة تقنياً وبشرياً لذلك. وعلى الصعيد الرسمي، ظهر الإرباك حول كيفية إنقاذ ما تبقى من السنة الدراسية، فتمّ ارتجال أمور كان يمكن الابتعاد عنها لو أخذ الأمر بروية بدءًا بتقييم ما لدينا من جهة، ومتطلبات التعليم عن بعد من جهة أخرى، إضافة إلى معرفة واقع المتعلم.فما هي سيرورة هذا النشاط التعليمي؟ وهل هو مناسب لنظامنا التعليمي؟ وهل يجب أن يستمر للسنة المقبلة؟
التعليم عن بعد يحصل في حالة الضرورة، وعندما لا يتوفر بديل عنه. أما في الحالات العادية، فالأفضل والأكثر انتاجية هو التعليم المباشر، أي وجود المعلم والطلاب في قاعة واحدة. في الحالة الأولى، يحصل التعليم بشروط صعبة، ولا تحصل عملية التربية. وهذا تقليص لدور المدرسة الأساسي (نظرياً على الأقل) وهو تربية النشء الذي ينضم إليها. وفي الثانية يمكن أن تحصل التربية من خلال العمل والأنشطة والتفاعل اليومي بين المعلم والطلاب، والطلاب في ما بينهم، وباقي العناصر البشرية المشاركة في العملية التربوية. إذاً نحن نقوم بالعمل التعليمي وليس التربوي من خلال التعليم عن بعد. أما النقطة الأخرى والمهمة فهي الجوّ التعليمي الذي يجب تأمينه للمتعلم لأن هذا العمل هو لأجله فقط، ويمكن الحكم على إيجابيته بقدر استفادة المتعلم منه. وهذا يتطلب من المسؤولين التفكير بالتالي:
- قدرات الطلاب: أي صف دراسي يتكوّن من ثلاث فئات: الأذكياء جداً، ويمكنهم استيعاب الدرس بشكل سريع وبأي طريقة يقدمها المعلم. متوسطو الذكاء، وغالباً ما يحتاجون إلى شرح واضح يعتمد فيه المعلم طرائق تدريس حديثة تجعلهم مشاركين في الحصة الدراسية، وتشكل هذه الشريحة أكثرية الطلاب. وفئة ثالثة يكون لديها ضعف في استيعاب ما يقدمه المعلم، وتحتاج غالباً إلى اهتمام أكثر ربما يصل إلى إعادة ما تم تقديمه. إذا استثنينا الفئة الأولى، فإن التعليم عن بعد لا يخدم الفئتين الأخريين لأن الطالب عادة يضطر أن يوقف المعلم عن الكلام، ويستوضحه بعض النقاط أو يسأله أن يعيد شرحها لو كان في قاعة التدريس، والمعلم القدير يلبي ذلك باعتماد طريقة أكثر سهولة. وهذا يفترض أن تكون لدى المعلم كفاءات تعليمية اكتسبها خلال إعداده وتدريبه وخبرته. وهذا النوع من المعلمين غير متوفر بنسبة عالية بين أعضاء الهيئة التعليمية، فهل هو متوفر في التعليم عن بعد؟
- الجوّ التعليمي: الطلاب موضوعون الآن في جوّ تعليمي غير مريح لأنه يشبه الإقامة الجبرية أكثر مما يشبه المدرسة التي توضع لها المناهج، وتؤمَّن لها التسهيلات، ويتحرك المتعلم فيها بحرية غالباً. ففي إطار الحجر الصحي، والخوف من جلب كورونا إلى المنزل، لا يستطيع المتعلم الخروج واللعب وزيارة مكان طبيعي وما شابه. فكيف لنا أن نجعله يحقق أهداف المنهج الخاص بصفه، وفي كل مادة دراسية يدرسها، وهو في هذه الوضعية؟
- توفر التسهيلات: ليس لدى الطلاب كلهم الوسائل التكنولوجية التي تؤهلهم لمتابعة الدروس عن بعد، ومتطلباتها اللوجستية من كهرباء وانترنت وغيرها. وهذا عائق مادي يجب التوقف عنده. وإذا كان في الأسرة طالبان أو ثلاثة، كيف يستطيعون متابعة صفوفهم المختلفة، واستخدام الوسيلة التكنولوجية المتوفرة للقيام بالأنشطة التي يطلبها المعلمون؟ علماً أن هناك أسراً ليس لديها جهاز كمبيوتر واحد.
- تقييم أداء الطلاب: لا بد من أن يفكر المسؤولون التربويون في كيفية تقييم أداء الطلاب عن بعد. وإلا عليهم القول بأن الجميع ناجحون لمجرد المشاركة في حضور الحصص الدراسية عن بعد. فهل يكون هذا مقبولاً وذا فائدة للمتعلمين؟
- الأهالي: السؤال البديهي الذي يتبادر إلى الذهن هو ما عليهم عمله. والأجوبة متعددة، لكن القليل منها يكون ضمن فئة «مساعدة أبنائهم». فهم غير معتادين على تدريس أبنائهم خصوصاً في الصفوف العليا، وبالتالي باتوا غير مرتاحين لهذا التعليم، لكنهم يتحمّلونه لإنجاز برنامج هذه السنة، خصوصاً لصف الشهادة الثانوية العامة.
هذه الأمور وأمثالها تلعب دوراً سلبياً في تنفيذ التعليم عن بعد، ولم تؤخذ في الاعتبار نظراً للعجلة في القيام بخطوة ما، لأن الهدف كان عدم تضييع ما تبقى من السنة الدراسية. ففي الحياة التربوية هناك دائماً وقت مهدور وضائع، خصوصاً عندما نعرف أن:
- بعض الطلاب يعيد صفه، وهذا ضياع للوقت.
- وبعضهم يرسب في الامتحان الرسمي، وهذا ضياع للوقت.
- وبعضهم الآخر يتخرج من الجامعة لاحقاً، ويبقى سنة أو اثنتين من دون عمل، وهذا ضياع للوقت.
- السنة الدراسية الفعلية عندنا لا تتجاوز الـ 120 يوماً. وهنا هدر خفي لعدد مماثل من أيام الدراسة، وهذا ضياع للوقت. (تصل مدة الدراسة السنوية في دول عدة في شرق آسيا إلى 250 يوماً).
فضياع الوقت مرافق لحياة الانسان وأنشطته بما فيها التربوية، لذا علينا القبول بمبدأ خسارة الوقت لأسباب قاهرة، ومن ثم مقاربة الموضوع بمنطق وهدوء وخطط يمكن تطبيقها. فنحن أمام «فورس ماجور»، فلماذا لا نتقبّلها بعقلانية، ونعلّق الدروس حتى تنتهي الأزمة؟ ويمكن بعدها تعويض الوقت الذي ضاع، ولن يكون ذلك مستحيلاً لأن السنة الدراسية الفعلية والقصيرة تسمح بذلك (مع استثناء صفوف الثالث الثانوي هذه السنة). أما كيف يمكن ذلك؟
بات من المعروف أن أزمة كورونا لن تُحلّ قبل إيجاد دواء أو لقاح، وأصحاب الاختصاص لا يتوقعون ذلك قبل أيلول. ولنبنِ على هذا التوقع العلمي قرارنا بأن نقفل المدارس حتى أيلول، ونجنب الطلاب وأهلهم والمعلمين هذه التجربة غير المريحة وغير الناجحة في بيئة مجتمعية كالتي لدينا، والتي ذكرنا بعض المعوقات فيها. وإذا استؤنفت الدراسة في أيلول أو تشرين الأول، يمكننا إكمال السنة الدراسية الحالية خلال ثلاثة أشهر حيث نستطيع تأمين 60 يوماً تدريسياً (نصف عدد أيام السنة الدراسية) قبل نهاية كانون الأول، ونبدأ السنة التالية مع مطلع 2021، والتي يمكن إنجازها في ستة أشهر من دون إعطاء إجازات بمناسبات دينية أو وطنية. وهكذا يحصل النشاط التربوي في الجو الطبيعي، ويكون الجميع رابحين (Win-win situation). أما إذا كان البعض يتوقع أن يستمر التعليم عن بعد في السنة الدراسية التالية إذا لم يجد العلماء الدواء، فما العوامل التي تستجد على المشهد؟
سيتقلص عدد طلاب المدارس الخاصة نظراً للوضع الاقتصادي، ولن تكون المدرسة الرسمية قادرة على تأمين متطلبات هذا النوع من التعليم لأسباب ذكرناها أعلاه. لذلك سيستفيد من هذا التعليم عدد محدود. والسؤال مجدداً: هل سيتقبل هؤلاء الطلاب وأهاليهم بالدرجة الأولى استمرار تعلم أبنائهم في المنزل؟ وهل سيصبح لدى من ليس عنده كمبيوتر أو تلفون أو آيباد الآن هذه الوسيلة في السنة المقبلة؟ وهل سيتم تدريب هيئة تعليمية على استخدام التكنولوجيا واتقان طرائق التدريس عن بعد؟ وهل سيحوّل محتوى الكتب الدراسية (التي تمثل محتوى المنهج) إلى مادة الكترونية؟ ومتى يبدأ ذلك؟ ومتى يتم إنجازه؟
أرفع هذه الأسئلة لأقول إن لا فائدة مهمة من استمرار التعليم عن بعد في بيئتنا في السنة الدراسية المقبلة لأن المستفيدين سيكونون قليلين جداً، بينما تعم الفائدة عند عودة الشكل الطبيعي للتربية في المدارس، ولا بد من أن ذلك سيحصل.

* الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء