من أفضل المشاهد السينمائية لوصف العلاقة بين سلطة المال وبعض السلطة الكنسية، ما جسده فيلم «العراب» عن العلاقة التفصيلية الفاسدة مع العصابات والمصارف ورجال المال وغيرهم، والقائمة على المصالح التي يغلبها بعض الأساقفة والكهنة على حقوق الناس. ليست غريبة علاقة الكنيسة بالمال، الفاتيكان كما الكنائس المحلية: علاقة مصالح متبادلة وضرورية أحيانا كثيرة حين تقوم الكنيسة الحقيقية على الخدمة الاجتماعية والتربوية والاستشفائية والكنسية، فتحتاج إلى المصارف والمال، لكنها ترتقي في ظل مسؤول روحي يتمتع بأخلاق كافية ليضع الكنيسة فوق الشبهات. هناك بابوات وأساقفة وكرادلة ومطارنة عُرفوا بفقرهم، وهناك العكس تماماً. وفي كنيسة لبنان المارونية كان لنا بطاركة وأساقفة عاشوا واستقالوا أو ماتوا فقراء، وكان لنا أيضاً في المقابل من تحوم حوله الشبهات. هناك من يجمع أموالاً ليبني كنيسة أو مستشفى أو دار عجزة، وهناك من يبني منازل له، ويجمع أموالاً لمقرّبين منه، ومن يغزل علاقة سوية مع المصارف ويمنح رؤساء ومسؤولين حزبيين أراضي وقفية. كان لنا بطاركة وأساقفة يدافعون عن الفقراء والجياع وعن الحق والحرية، فصار لنا اليوم من يدافع عن شخص حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، بحجة الدفاع عن «وجه لبنان». لا نعرف أي وجه للبنان الذي دافع عنه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أمس وقبله، حين أجرى اتصالات هاتفية لإبقائه في منصبه، فيما تُسرق أموال الناس وودائعهم وتضيع حقوقهم. ولا نعرف أيضاً أي وجه للبنان يدافع عنه مؤيدو الراعي في حملته هذه: هل هو وجه لبنان الذي حمله الراعي الى سوريا للقاء الرئيس بشار الأسد، أم الوجه الذي حمله في زيارة «تاريخية» الى السعودية، أم الذي ذهب فيه الى فلسطين، أم الى الضاحية الجنوبية للقاء الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله؟ وأي وجه للبنان يدافع به الراعي عن سلامة، هل هو وجه المصرف المركزي والمصارف التي له فيها أصحاب وأصدقاء وأموال الكنيسة والمطرانيات والرهبانيات والمستشفيات والمدارس الكاثوليكية، وكثير منها أيضاً ضاعت تحت وطأة تدابير المصارف وإداراتها، أم وجه الفقراء والأبرياء الذين نُهبت أموالهم وتدهورت قيمة عملتهم؟ الى أي جانب يفترض أن ينحاز رأس الكنيسة؟ الى الشخصيات التي تعمل بصمت من دون توقف منذ اندلاع الأزمة لتأمين أبسط مقومات الحياة اليومية للناس، أم الى الذين يسرقون لقمة الناس؟ وهل الدفاع عن سلامة يتم حصراً لأنه يشغل «موقعاً مارونياً» فرّط به شاغله واستخدمه لغايات شخصية له ولحلقة المنتفعين منه، أم لأنه نقطة تقاطع مصالح متشابكة بين الكنيسة والمصارف وأسماء كثيرة معروفة بين الطرفين؟ هو نفسه هذا الموقع صاحب السياسة المالية والاقتصادية التي أدانها المجمع الماروني كمرجعية كنسية، إذ أفرد مساحة واسعة للاقتصاد لأنه في صلب «اهتمامات الكنيسة». وهو تحدث عن سياسة الاعمار التي لم تستلهم مبادئ العدالة، ودخول لبنان عهد الصفقات والمضاربات والتبذير والفوائد العالية... والتشوهات الاقتصادية والمالية، داعياً في ظل ما أنتجته السياسة النقدية من دين على لبنان «الى تغيير المسلك الاقتصادي والمالي والنقدي الذي أصاب المجتمع بأضرار جسيمة».
لا يُمنَح «الغفران» لسارق يعترف، من خلال تعاميمه اليومية، بأنه لن يتوب

بين أن ينتقد الراعي سياسة الحكومة وأن يطالب بالاستماع الى سلامة كحق مشروع، وبين الدفاع عن الأخير كشخص، بون شاسع، ومسيء للكنيسة ويسهم في تكريس أعراف لطوائف ومرجعيات أخرى. كذلك فإنه يأخذ المشكلة في البلد الى منحى آخر، ويختزلها في الدفاع عن شخص، معروفة علاقاته وتشعباته السياسية مع كل الأطراف من دون استثناء ودهاليز هندساته والمستفيدين منها. فالمشكلة الحقيقية انهيار الوضع المالي والاقتصادي وحقوق الناس، في مقابل سياسات عقيمة وإمعان في الهروب الى الأمام، من قبَل سياسيين مدّدوا لسلامة وعلى رأسهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والاحزاب والقوى السياسية كافة. ما يجري ليس استهدافاً لموقع ماروني، بل هو صراع شخصيات مارونية - نخرها الفساد - على رئاسة الجمهورية، وتمعن في نهب البلد أسوة بغيرها من مسؤولين من كل الطوائف. أما الوضع الذي يصبح أخطر كل يوم، ويحمل في طياته أزمات سياسية جوهرية تضع البلد على كف عفريت، فيحتاج الى معالجات مسؤولة لصالح شعب بكامله، لكنه حكماً لا يحتاج الى منح «الغفران» لسارق يعترف، من خلال تعاميمه اليومية، بأنه لن يتوب.