لجوء الأنظمة السياسية، الديمقراطية والمستبدة على حد سواء، الى اختراع أو تعظيم شأن تهديد خارجي لصناعة اجماع داخلي حول رموزها وسياساتها تكتيك قديم عمره من عمر السياسة. تفوّقت الولايات المتحدة على غيرها في هذا المضمار، ورأينا كيف سارعت، مثلا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، الى اختراع «التهديد الاسلامي» بوصفه تحدياً استراتيجياً مشابهاً للغرب وهيمنته و«قيمه» في بداية تسعينات القرن الماضي. هذه النظرية، التي باتت تثير السخرية اليوم، استخدمت لكسب تأييد الرأي العام الأميركي والحلفاء الغربيين أساسا لاستمرار سياسات التوسع والعدوان من قبل واشنطن المنتصرة في الحرب الباردة، وفرض سيطرتها على العالم بذريعة مواجهة هذا «الخطر الوجودي». اندرج هذا المسعى ضمن توجه استراتيجي لأمبراطورية في أوج قوتها، لانتهاز ما اصطلح على تسميته «اللحظة الأحادية» في العلاقات الدولية للتأسيس لـ«قرن أميركي جديد». ما نشهده اليوم من حملة مسعورة ضد الصين، يشارك فيها المسؤولون الأميركيون وقسم وازن من وسائل الاعلام وقطاع واسع من «أميركا الترامبية» عبر وسائط «تواصلها الرقمية»، يجري في سياق مختلف نوعياً. فالصين كقوة اقتصادية وعسكرية صاعدة هي التحدي الأكبر للهيمنة الأميركية المنحدرة، والذي يفوق في الواقع، وعلى النطاق العالمي، ما مثّله الاتحاد السوفياتي، ناهيك عن التحدي الاسلامي الافتراضي. أجمعت النخب السياسية والعسكرية للامبراطورية على خيار احتواء هذا الصعود السلمي عبر محاصرة الصين واستنزافها بالحرب التجارية وسباق التسلح وزعزعة استقرارها الداخلي، بدلا من خيار التفاوض والتوصل الى تفاهمات الذي طرحته الصين في مناسبات عديدة. سياسة الادارة الحالية تترجم هذا الاجماع الا انها، بعد جائحة كورونا وما كشفته من تداع لنظام بلادها الصحي ومن هشاشة لاقتصاد الفقاعات النيوليبرالي ومن اختلالات في نظامها السياسي بين السلطة الفدرالية والولايات، ماضية في خيار التصعيد ضد بكين الى حدوده القصوى عبر اتهامها بالتعمد بنشر الوباء وتحويله الى جائحة، على رغم ما قد يترتب عليه من نتائج وخيمة سياسيا واقتصاديا على صعيد دولي. ولا شك أن سعي الرئيس الأخرق لتأمين الشروط المناسبة لاعادة انتخابه، وهي عملية تزداد صعوبة بالنسبة اليه، عبر لم الشمل في مواجهة «العدو الخارجي»، هي أول الاعتبارات التي تفسر تبني الخيار المذكور.
انكشاف الهشاشة الأميركية
الرئيس الأميركي مقتنع بأن الصين تتآمر عليه. وهو قال في مقابلة مع صحافيين من وكالة «رويترز»، في 29 من نيسان الماضي، أنها ستفعل ما بوسعها لكي يخسر السباق الرئاسي، وأنها تفضل منافسه جو بايدن لأنه سيخفف من الضغوط التي فرضها هو عليها في ميدان التجارة وميادين أخرى. تكفي هذه القناعة لدفع ترامب الى اعتماد أشد السياسات تطرفا ضد الصين. البقاء في موقعه غايته المركزية وأولوية الأولويات، وهي مقدمة على جميع الاعتبارات السياسية والاستراتيجية الأخرى بالنسبة اليه. لكن جميع التطورات الداخلية منذ انتشار جائحة كورونا تضعف يوما بعد يوم فرص تحقيقها. عدد ضحاياها في الولايات المتحدة حتى الثالث من أيار الحالي (68465 وفاة) أضحى يفوق عدد الجنود الأميركيين الذين قتلوا في حرب فيتنام (58220 قتيلاً) بحوالي العشرة آلاف شخص. اضافة لذلك، فان 30 مليون عاطل عن العمل يطالبون برواتب البطالة وعددهم مرشح للتعاظم في الأسابيع والأشهر المقبلة. وتشير غالبية التحليلات الاقتصادية، بما فيها تلك الصادرة عن أوساط غير معارضة لترامب، الى أن المليارات التي وافق الكونغرس على تقديمها للشركات الأميركية لمواجهة تحديات المرحلة الحالية لن تكفي لاعادة تحريك عجلة الاقتصاد بالسرعة التي تفرضها مثل هذه التحديات. نقاط ضعف النموذج الأميركي انكشفت بجلاء للقاصي والداني: قطاع صحي متداع، اقتصاد هش يرتكز الى الأسواق المالية وفقاعاتها، وتأزم بنيوي في نظامها السياسي الفدرالي. فالانقسامات التي خرجت الى العلن على خلفية الموقف من ضرورة الاستمرار باجراءات الحجر الصحي أو وقفها بين السلطة الفدرالية وحكام الولايات وصلت الى مستوى غير مسبوق في التاريخ الأميركي المعاصر. الرئيس الأميركي لم يتردد في دعوة أنصاره، والعديد منهم نظّم تظاهرات مسلحة، الى «تحرير» الولايات «المتمردة»، كفرجينيا مثلا التي لم يوافق حكامها على اجراءات وقف الحجر. عدد من ولايات الوسط والجنوب، وحكامها من الحزب الجمهوري، كتكساس وأوهايو وميسوري وجورجيا وفلوريدا، التزم بتوجيهات ترامب. لكن بعضا آخر أصر على رفضها بل وحتى التهديد بالانفصال، كما فعل حاكم كاليفورنيا غافين نيوسوم. هذه التطورات المستجدة حدت ببعض المعلقين، كجوشوا كيتينغ في مقال لافت على موقع «سلايت»، الى التساؤل عن مصير الولايات المتحدة كدولة - أمة. سيكون لهذه الانقسامات والتناقضات السياسية الداخلية مفاعيل سلبية بالنسبة لترامب وكذلك لرهانه المحفوف بالمخاطر بالنسبة لعامة الأميركيين، على وقف اجراءات الحجر.

الصين «أصل البلاء»
لم يمنع ضعف ثقة ترامب بمؤسسات الدولة العميقة، وفي مقدمها الأجهزة الأمنية، من أن يطلب من هذه الأخيرة بأن تجمع له أدلة تثبت أن فيروس كورونا قد تم انتاجه في مختبرات مدينة ووهان الصينية. وفي ظل عدم وجود مثل هذه الأدلة، انتقل الى اتهام الصين، في مقابلة مع «فوكس نيوز»، باخفاء الجائحة ومداها عن العالم، ومن ثم بتصديرها عمدا الى الخارج. وذهب وزير خارجيته في الاتجاه نفسه عندما زعم أن لديه «أدلة ضخمة» على خروج فيروس كورونا من مختبر صيني، لكنه لم يقدمها بطبيعة الحال. أتت هذه التصريحات في ظل استعار حملة تحريض على الصين بلغت مدى قل نظيره. الرئيس الأميركي يأمل باستخدام هذه الحملة للتعمية على النتائج الكارثية لسياساته في الداخل، وبناء اجماع وطني في مواجهة «امبراطورية الشر الجديدة» يتيح اعادة انتخابه. أما مايك بومبيو والمجموعة العقائدية - الأيديولوجية الملتفة حوله، داخل الادارة أو في المؤسسات العسكرية والسياسية، والتي يسميها الخبير الاستراتيجي المتقاعد في الجيش الأميركي داني سيورسن «مافيا كلية وست بوينت»، في مقال على موقع «ذي نايشن»، وتضم بين أبرز رموزها خريجين من دورة سنة 1986 في الكلية، فان أجندتها الأيديولوجية ومصالحها الوثيقة الصلة بالمجمع الصناعي - العسكري تفسّر تحريضها المستمر على الصين. الحسابات الانتخابية الخاصة لترامب والأجندة الأيديولوجية - الامبراطورية لعصابة وست بوينت تجدان في الصين اليوم العدو الأمثل الذي يجب توحيد الصف الداخلي في مواجهته.