يكاد القول يصحّ بأنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة آخر التلاميذ الأذكياء في السلطة الذين خلّفتهم الحريرية السياسية. مدرسة الرئيس رفيق الحريري، فيها حتماً تلاميذ أذكياء، وتلاميذ أوفياء، وتلاميذ كسالى، وتلاميذ انتهازيون هم المستمرّون والأوفر عدداً.بين التلاميذ الأذكياء مَن هم الآن خارج السلطة، وخارج تيار المستقبل، وخارج الحريرية السياسية نفسها التي لم تعد تشبه الأب الأول. أحدهم وأهمهم الرئيس فؤاد السنيورة، إلى آخرين أذكياء أيضاً حجبوا أنفسهم. بين هؤلاء أيضاً مَن خرج باحترام ووقار، وبينهم مَن أُقصي بعدما أفرط في ثرائه، وبينهم مَن لم يعد يتحمّل انتفاخه في مرآة ذاته. يصحّ ذلك تماماً على الذين رافقوا الرئيس الراحل في حكوماته ودورتَي الانتخابات اللتين شارك فيها (1996 و2000) والذين عدّهم مستشاريه.
وحدهما السنيورة وحاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة من تلاميذ المدرسة صمدا بعد غياب مؤسّسها ولا يزالان. الأول بترؤسه الحكومة مرتين وانتخابه نائباً مرة واحدة، وسلامة الذي لا يزال يلزم منصبه منذ 27 عاماً. كلاهما رافقا حقبتَي الحريري الأب ثم الحريري الابن، ووصلا إلى نهاية الطريق أو أوشكا. بالتأكيد لا يصلح القول بأن الحريري الابن هو ابن مدرسة لم يعرفها إلا بعد اغتيال والده، ولم يخلف أباه إلا بعدما أذنت بذلك الرياض في نيسان 2005، ثم انتزعت منه هذا التفويض في تشرين الثاني 2017.
أكثر من مفارقة، لصيقة بالانهيار الحالي في البلاد، توجب الربط بين معلم المدرسة وتلميذها آخر المتبقّين فيها:
أولاها، إسقاط الليرة للمجيء بالحريري الأب إلى السرايا عام 1992، هو نفسه أسقط الليرة للإبقاء على سلامة في حاكمية مصرف لبنان.
ثانيتها، أن قاعدة الاستدانة التي لم يسبق أن اختبرها لبنان مرة في تاريخه، ولا وقع حتماً تحت عبئها في انتظار ربيع السلام الذي بشّر به الحريري الأب عامي 1992 و1993 مع مؤتمر مدريد ما سيتيح للبنان تسديد ديونه، هي نفسها القاعدة التي أفصح عنها سلامة في مؤتمره الصحافي الأخير (29 نيسان) عندما تحدّث عن توخيه شراء الوقت ريثما تجري الحكومات اللبنانية الإصلاحات البنيوية، فأقرضها بلا حساب.
كلاهما الرئيس الراحل والحاكم الحالي صنعا سابقة الفوائد المرتفعة على أنها رهان يدخل العملات الصعبة إلى البلاد. إبان الحكومة الأولى للحريري سجّلت الفوائد في المصارف أرقاماً قياسية، وعوّلت على غير اللبنانيين أكثر منهم اللبنانيين للحصول عليها، بدءاً بمسؤولين سوريين كبار أبدلوا دولاراتهم بليرات لبنانية من خلال الحريري الأب، ثم استرجعوها منه مع الفوائد الثمينة. صحّ ذلك أيضاً على متموّلين سوريين كبار هم رجال النظام، وعلى شركاء المعادلة الداخلية حينذاك. على نحو مماثل، أعاد سلامة تكرار لعبة الفوائد الكبيرة على أنها جزء لا يتجزّأ من الرهان على الوقت الذي راهن عليه عبثاً رئيس الحكومة الراحل.
ثالثتها، تعميم مفهوم غير مألوف في لعبة الأنظمة والسياسات، بالقول بأن مصير العملة الوطنية مرتبط بالشخص، كأنه كافلها والضامن الفعلي لها. ذلك ما اقترن بوجود الحريري الأب في الحكومتين الأولييْن (1992 و1995) قبل أن يُرغم على ترك السرايا عام 1998، فلم تسقط الليرة بخروجه من الحكم. النموذج نفسه أحاط سلامة نفسه به، لكن بأسلوب مقلوب تماماً لما فعله الحريري الأب: عوض أن يهدد بالليرة لمنع أي محاولة لإخراجه من منصبه، أسقطها بالفعل كي يقدم نفسه على أنه الوحيد القادر على إعادة الاستقرار إليها. في عام 2020 استخدم سلامة سلاح 1992.
قبل أسابيع قليلة، تلقّت وزارة الخارجية والمغتربين من سفارة لبنان في باريس تقريراً عن محتوى اجتماع عُقد في وزارة الخارجية الفرنسية تناول الوضع النقدي في لبنان وأزمة انهيار اقتصاده، إلى الخطة الإصلاحية لحكومة الرئيس حسان دياب ومدى انطباقها على إصلاحات مؤتمر سيدر. في هذا الاجتماع بدا لافتاً ما قاله الموفد الفرنسي الخاص إلى بيروت، المكلّف متابعة نتائج مؤتمر سيدر، السفير بيار دوكان - وكان زار العاصمة اللبنانية عامي 2018 و2019 - عن حاكم مصرف لبنان تبعاً لما ورد في التقرير، واتّسم بسلبية عالية: «متى سيتخلّصون من هذا الرجل؟».
تبلّغ المسؤولون اللبنانيون فحوى التقرير الذي أرسل إشارة مهمة إلى انتقاد فرنسي حادّ للسياسة النقدية للحاكم، راكم نقمتهم عليه من غير أن يكون متاحاً، لأسباب سياسية محض، إقالته من منصبه. تلا هذا الموقف ما وصل إلى المسؤولين اللبنانيين أيضاً عن إشارات أميركية ليست بمثل التشدّد الفرنسي، إلا أنها لم تضع الرجل تحت مظلة واشنطن. مفاد الإشارات الرسمية والجدية تلك أن ما يهم الأميركيين علاقتهم بالمؤسسات النقدية والمالية والمصرفية اللبنانية وسياساتها وليس الأشخاص. إشارة كهذه، كان من المستحيل توقّعها قبل سنوات تصدر حيال سلامة الذي غالى في جمع جوائز كان يحصل عليها، على أنه مرة أفضل حاكم مصرف مركزي في المنطقة، ومرة أحد أهم حكّام المصارف المركزية في العالم. فإذا الرجل اليوم في وضع محرج، بالكاد يتيح له الدفاع عن سمعته.
وقد تكون المكالمة التي أجراها به رئيس مجلس النواب نبيه برّي، بعد تصاعد الحملة على سلامة في الأسابيع الأخيرة والمطالبة بإقالته، خير معبّر عما آلت إليه حاله. عارض رئيس البرلمان إقالته بحجة جاراه فيها أكثر من طرف، منهم حزب الله الذي تحمّس بداية ثم برَّد همته. حجة برّي أن من المتعذّر إضافة شغور إلى شغور. في غياب نواب حاكم مصرف لبنان رغم فقدانهم أي صلاحية جدية، وفي غياب مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان المعني بالمراقبة، وكذلك لجنة الرقابة على المصارف، فإن إقالة الحاكم تجعل المشكلة أكثر تعقيداً.
أما ما قاله برّي لسلامة في المكالمة الهاتفية: موقفي منك ليس دفاعاً عنك، بل لتفادي مشكلة أكبر.
برّي للحاكم: لا أدافع عنك لكنّني لا أريد مشكلة فوق مشكلة


بين أيدي المسؤولين اللبنانيين دراسة من 15 صفحة وضعها مستشار قانوني بارز تناول فيها المقتضيات التي تضع بين يدي مجلس الوزراء أسباباً كافية لإقالة سلامة. لا يتوهّم المسؤولون عدم توافر الحجج القانونية الموجبة لاتخاذ موقف كهذا، إلا أن دونه - إلى الآن على الأقل - القرار السياسي المرتبط بمَن سيخلفه لا به هو بالذات، وباسترضاء السلطات النقدية الدولية الكبرى وطمأنتها. بل تكاد تكون ثمة سابقة في وجود حاكم لمصرف لبنان في موقع مناوئ لرئيسَي الجمهورية والحكومة. كلاهما لا يريدانه، بيد أن موازين القوى الداخلية تؤجل إقصاءه ولا تلغيه.
الرئيس ميشال عون ممتعض من تصرفه غير اللائق حياله: طالبه ببيان عن الأرقام الفعلية لمصرف لبنان، فأرسل إليه سلامة بياناً من 50 صفحة يتعذّر فيها تفسير الأرقام. خابره وطلب منه مجدّداً بياناً مقتضباً. حضر الحاكم إلى الرئيس وسلّمه ثلاث أوراق بخط اليد راكم فيها أرقاماً فوق أخرى في بضعة أسطر كي يستعصي فهمها، قال إنه وضعها على عجل. ليس امتعاض الرئيس حسان دياب أقل وطأة منذ سمع المؤتمر الصحافي لسلامة في 29 نيسان، قائلاً بأن لا موجب للتنسيق بينه والحكومة، كما لم يستجب لطلب تدخّله في سوق القطع.
ما شكا منه دياب عبّر عنه أخيراً وفد صندوق النقد الدولي في تفاوضه مع الوفد اللبناني (مصرف لبنان في عداده)، عبر الاتصال بالفيديو: يصرّ صندوق النقد على الحصول على الأرقام الحقيقية في حسابات مصرف لبنان، ملقياً شكوكه حيال الأرقام التي وصلت إليه. ما أخطر صندوق النقد محاوريه اللبنانيين أن أرقام مصرف لبنان الصادرة عنه غير مؤيّدة من أي جهة دولية تمنحها صدقيتها.