مع كلّ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والأزمات البيئية والتدمير الممنهج للطبيعة، لا تزال المقالع تتمدّد كالسرطان على مدخل محافظة الشمال، صعوداً نحو قضاء الكورة المنكوب بيئياً وزراعياً. تلال الكورة الخضراء، حوّلتها شركتا الإسمنت («هولسيم - لافارج» و«السبع»)، بدءاً من بلدة كفرحزير إلى بدبهون، من تراب أحمر خصب إلى «كلينكر» ثم إسمنت. سرطان الشركات لم يطَل المشاعات فحسب، وإنّما أيضاً الأراضي التي اضطر أهلها إلى الابتعاد عنها، فقُلع زيتونها وتحولت إلى مستنقعات بفعل أعمال الحفر وسرقة التربة.الجريمة ممتدّة منذ ما قبل الحرب الأهلية. إلّا أّن القانون الذي صدر عام 1993، بدفعٍ من الرئيس رفيق الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط، لمنع استيراد الإسمنت، بذريعة إعادة إعمار لبنان، فاقمها وقوننها، حتى انتشرت المقالع والكسارات على كامل المساحة اللبنانية.
في الأيام الأخيرة، كانت الشركات تحاول الحصول على مهلة «مؤقّتة» (كالعادة) من وزارة البيئة لاستكمال أعمال الحفر (بدءاً من 10 أيار الجاري ولمدة أربعة أشهر). وبحسب المعلومات، فإن اتّصالات عدة جرت بين وزير البيئة دميانوس وأكثر من طرف، على أن يُطرح الأمر على مجلس الوزراء، وسط ضغوط مستمرة للحصول على المهلة.
السؤال الأهم، هو عن سبب إصرار شركات الترابة على مواصلة أعمالها في ظلّ إجراءات التعبئة، على رغم امتلاكها مخزوناً يكفي لثلاث سنوات بوتيرة السوق المعتادة، ما يعني أن هذه المؤونة أكثر من كافية في المرحلة المقبلة، مع حالة الركود المتوقّعة في سوق البناء!
ومعلوم أن الشركات التي تحتكر سوق الترابة، وتتوزّع على الطوائف بشكل فاضح، عملت على زيادة إنتاجها من 4500 طن يومياً عام 2003 إلى 14000 طن يومياً عام 2017. وبحسب التقديرات الأوّلية، فإنّ أرباح أيّ شركة لا تقلّ عن مليون دولار يومياً.
وينتشر في لبنان حوالى 7000 مقلع عشوائي، قلة قليلة منها حاصلة على التراخيص اللازمة، وبعضها تلاعب بالتقارير البيئية للحصول على الترخيص. وإذا كان المقلع المرخّص خاضعاً للملاحقة عملاً بقانون تنظيم المقالع والكسارات، فالسؤال هو عن كيفية تعامل الدولة مع المقالع غير المرخّصة التي يعمل الكثير منها بلا حسيب أو رقيب.
الرُّخص إن وُجدت تشترط استصلاح الأراضي كل سنتين وهو ما لم يحصل منذ 40 عاماً


بلدية كفرحزير هي الوحيدة في الكورة التي سمحت للشركات بقلع أراضيها. المجلس البلدي الحالي حرّر ضبطاً واحداً يتيماً بحق أصحاب المقالع اللاشرعية(!) ما أدى إلى استقالة ثلاثة أعضاء من البلدية اعتراضاً على التساهل مع أصحاب المقالع. وكانت البلدية طلبت من الشركات إرسال رخصها للعمل في المقالع، فاستندت «هولسيم» إلى ترخيص يعود إلى عام 1936، علماً أن الرخص تتجدّد سنوياً، فيما ادّعت «السبع» أن مقالع شركات الإسمنت مستثناة من قرارات منع العمل في المقالع غير الشرعية، مستندة في موقفها إلى دعم محافظ الشمال رمزي نهرا. أمّا في بدبهون، فلا بلدية من أساسه، وباتت شركة «السبع» تملك نصف أراضي البلدة التي قُلع جزء من أتربتها وحجارتها من دون ترخيص! كما أغلقت الشركة العديد من الطرق الزراعية في البلدة للقيام بأعمالها بعيداً عن أعين المواطنين، ما يسبّب نزاعات مع المزارعين الذين لا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم بسهولة. إلى ذلك، فإنّ ما تقوم به الشركة من حفر عمودي، يصل حتى ارتفاع مئتي متر، لا يتوافق مع التدرج الذي تشترطه الرخص (إن وُجدت)، والتي تشترط أيضاً استصلاح الأراضي كلّ سنتين، وهو ما لم يحصل منذ 40 عاماً!
وعدا عن الأذى المباشر للتربة والطبيعة والمساحات الخضراء في الكورة، تزيد مصانع الإسمنت من تلوث القضاء بفعل استخدامها لوقودٍ سام هو «البتروكوك» و«دواليب الكاوتشوك» ما يترك آثاراً بيئية خطيرة، دفعت بالجمعيات البيئية والأهالي إلى المطالبة بوضع «مجسّات» للغازات والغبار. وفي عام 2017 وضعت مجسّات في بلدات فيع، قلحات، كفرحزير وحامات، إلا أنّ وزارة البيئة حجبت وقتها النتائج عن البلديات والأهالي، ورفضت تحرير المعدلات اليومية كما وعدت. والأنكى، أن العمل بهذه الآلات توقف بعد أشهر قليلة بحجة التقشّف!



هل الإسمنت صناعة وطنية؟
تبيع شركات الإسمنت الطن محلّياً بـ120دولاراً، أي ثلاثة أضعاف السعر الذي تبيعه للخارج، وتذهب معظم الأرباح لأصحابها. وفي كلتا الحالتين، الجشع الرأسمالي هو ما يتحكّم بعمل الشركات على حساب صحة اللبنانيين، وعلى حساب اقتصادهم، إذ يستمرّ تهريب النقد إلى الخارج كما في حالة «هولسيم - لافارج»، ليبقى الفتات لعمّال معظمهم من المياومين، تستعملهم الشركات كورقة ضغط على الدولة في أيّ قرار يتعارض مع مصالحها. اليوم، يطالب أهالي الكورة وزير البيئة بعدم منح الشركات مهلة لاستكمال تدمير بلداتهم. فالمهلة المطلوبة تمتد لأربعة أشهر، ستعمل خلالها الشركات على استخراج 10 آلاف طن يومياً، رغم الـ«ستوك» الموجود في مستودعاتها. وفيما لم يُحسم بعد توجّه الوزارة، إلّا أنه يكفي الاطّلاع على ما ورد في الخطة الإصلاحية في الصفحة 58-59، ليتبيّن أنها تطالب بتعويضات مقابل السماح باستمرار عمل المقالع غير الشرعية، بدل معالجة هذه الأزمة المدمّرة من جذورها بحلول بيئية واقتصادية.