ليست البطالة، التي بلغت أرقاماً قياسية، مهمة. وليس الفقر، الذي يطرق كل باب، مهماً. وليست المجاعة، التي تهدد حياة اللبنانيين، مهمة. المهم أن الرئيس حسان دياب قرر الاحتفال بكتاب إنجازات حكومته خلال مئة يوم من نيلها الثقة. لائحة الإنجازات التي تلاها طويلة، لكن تأثيرها على حياة اللبنانيين، القلقين على مستقبلهم، صفر. أيّ إنجازات تلك التي تكون على شاكلة: «انتهاء المرحلة الأولى من التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، والاستعداد للمرحلة الثانية»، أو «دعوة الجهات المانحة للكشف عن الأموال المنهوبة واسترجاعها»، أو «بدء مفاوضات لتلزيم استقدام الغاز الطبيعي عبر المنصات العائمة لتخزين وتغويز الغاز الطبيعي». أما الحديث عن استرداد الأموال المنهوبة وعن إلغاء السرية المصرفية (أقرت اللجان أمس رفعها عن العاملين في القطاع العام والمتعاملين معه فقط) أو استقلالية القضاء، فتلك تحولت إلى نكات تتداول على نطاق واسع حتى ممن يأملون أن تتحقق هذه الوعود.رئيس الحكومة نفسه سبق أن اعتبر أن أداء حاكم مصرف لبنان مشبوه، لكن أحداً لم يستطع أو يتجرأ على محاسبته أو على الأقل مساءلته. القضاء الذي يأمل اللبنانيون باستقلاله، يئنّ تحت ضغوط تشلّ قدرته على استكمال الملفات حتى نهايتها، هذا عدا عن الحصانات السياسية التي تعطى لمتورّطين أو متّهمين بقضايا فساد.

(مروان بوحيدر)

مع ذلك، وبعيداً عن الإنجازات الوهمية يجيد حسان دياب توصيف الواقع. يقول إنه يعلم جيداً أن المعاناة طالت كثيراً وأن اليأس استحكم وأن السلطة تُصادر الدولة ومؤسساتها ومقدراتها، وأن الثقة لا تستقيم بين المواطن والدولة إذا كانت الدولة تأخذ ولا تعطي. تأخذ الضرائب والرسوم، فيما الكهرباء مظلمة والمياه ملوثة والاستشفاء غير مجاني، والإدارة فاسدة والسياسة فاسدة والمالية العامة منهوبة والمشاريع فاشلة والسمسرات فاجرة والغلاء فاحش…
خلاصة المئة يوم أن حكومة حسان دياب لا تختلف عن سابقاتها. التوازنات نفسها تتحكم بها، وهي غير قادرة على الخروج من عباءة من أنعم عليها بالثقة من السياسيين. «يسعى» مجلس الوزراء إلى الإنقاذ «بالشوكة والسكينة»، فيما سرعة الانهيار تحتاج إلى إنجازات فورية وقرارات مصيرية. بعد طول انتظار، أعلن دياب اتفاقه مع حاكم مصرف لبنان، ليتدخل الأخير في السوق من أجل حماية سعر صرف العملة الوطنية وأيضاً لدعم الأنشطة التي تتعلق باستيراد المواد الاستهلاكية الأساسية (ابتداءً من ٢٧ أيار).
مجلس النواب ليس أفضل حالاً من مجلس الوزراء. يتعامل مع الأزمة بهدوء لا يعبّر عن حجم ما يعانيه اللبنانيون. الورشة التشريعية المتعلقة بمكافحة الفساد شارفت على نهايتها. لكن أحداً لا يأمل أن تقوم السلطة المسؤولة عن الفساد بمواجهة نفسها، مهما كثرت القوانين وتعددت.
حتى قانون «الكابيتال كونترول» (فرض ضوابط على سحب الأموال وتحويلها)، الذي فقد قيمته، ثمة من يسعى إلى تقديمه كإنجاز.
«الوفاء للمقاومة»: على الحكومة ألّا تقع فريسة الوهم بعدم وجود بدائل

اتفق الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل عليه، فخرج اقتراح القانون إلى النور، موقّعاً من نواب في كتلتَي «التنمية والتحرير» و«لبنان القوي»، تمهيداً لعرضه على الهيئة العامة. بري نفسه سبق أن رفع الفيتو في وجه المشروع، الذي طرح في آذار من قبل وزير المالية ممثلاً جمعية المصارف. موقف رئيس المجلس بني على اعتبار أن المشروع يلحق الضرر بالمودعين ويناقض النظام الاقتصادي الحرّ الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة. أقفل الملف حينها قبل أن يُعلن باسيل إحياءه أمس، باتفاق مع بري نفسه. لكن ما أهمية هذا القانون، بعدما هرّب المحظيّون أموالهم، وفرضت المصارف القيود على صغار المودعين أو أولئك الذين لا سند لهم؟ بين النواب الموقّعين على الاقتراح من يعتبر أن الهدف من القانون هو تنظيم التحويلات، بعدما عمدت المصارف إلى تطبيق كابيتال كونترول استنسابي. النص يحدد الحالات التي يسمح فيها بتحويل الأموال. وهو يفرض على المصارف تنفيذ عمليات التحويل، في الحالات تلك، مع إعطاء المودع حق اللجوء إلى لجنة الرقابة على المصارف لبتّ الأمر في حال رفض المصرف التنفيذ.
في كل الدول التي تعرّضت لأزمات مالية، كالتي يشهدها لبنان، تم اللجوء إلى الكابيتال كونترول كإجراء وقائي أو استباقي، إلا في لبنان، تتجه السلطة التشريعية إلى هذه الخطوة بعدما تم تهريب مليارات الدولارات استنسابياً!
الطبقة الحاكمة تتحمل مسؤولية، لكن السلطة النقدية كانت أول من رفضت مجرد النقاش في الموضوع، حين بدأت الضغوط على الليرة تشتد في أيلول الماضي. حينها كان صار معلوماً أن الأزمة آتية، وكان على حاكم مصرف لبنان تطبيق المادة 174 من قانون النقد والتسليف، التي تخوّله إلزام المصارف بتنظيم المعاملات مع المودعين، لكنه لم يفعل. مليارات الدولارات تلك، لو بقيت في لبنان، أو على الأقل، لو نظم التصرف بها، لكانت الحالة اليوم أقل سوءاً.

اقتراح الـ«كابيتال كونترول»: تنظيم آليات التحويل ووقف الاستنسابية


بعد ١٧ تشرين وإقفال المصارف، زادت الحاجة إلى الكابيتال كونترول. أن تقفل المصارف أبوابها لأسبوعين من دون سبب مقنع، أجّج حالة الهلع عند الناس. ولذلك كانت الهجمة على السحب والتحويل متوقعة. حينها أيضاً طرحت مسألة الكابيتال كونترول، انطلاقاً من أن عدم فرض أي قيود على سحب الأموال وتحويلها من شأنه أن يعرضّ القطاع المصرفي لهزة كبيرة. لكن للمرة الثانية رفض الأمر من قبل السياسيين ومن قبل مصرف لبنان والمصارف. عاشقو «الاقتصاد الحر» اعتبروا أن أي إجراء من هذا القبيل سيؤدي إلى وقف تحويل الأموال إلى لبنان. هؤلاء أنفسهم كانوا «يناضلون» من أجل عدم التخلف عن دفع الديون. نجحوا جزئياً في مسعاهم. هُرّبت الأموال وسددت دفعات من الديون، فشحّت الدولارات، وتحوّل إعلان التخلف عن الديون إلى مسألة وقت. ولو لم تعلن الحكومة اللبنانية ذلك في آذار، لكانت ألزمت به في نيسان أو أيار.

«الوفاء للمقاومة»: لعدم التفاوض من موقع المهزوم
على صعيد متصل، دعت كتلة الوفاء للمقاومة، «الحكومة اللبنانية وهي تفاوض الجهات والمؤسسات والدول حول ما يلزم من مساعدة لتنفيذ خطتها الاقتصادية، الى أن تكون واثقة تماماً بوجود خيارات بديلة، حتى لا تقع فريسة الوهم بعدم وجود بدائل، وكي لا تخضع لمحاولات بعضهم الضغط عليها لتقديم تنازلات مرفوضة». وأكدت في اجتماعها الأسبوعي أن «الحرص على العلاقات الجيدة مع الدول ينبغي أن يظهر متبادلاً وإلا يصبح ارتماءً أعمى في حضن المبتزّين». وأسفت «لوجود أصوات تشجع على التنازل وتبرّر للجهات الأخرى المفاوضة إملاء شروط لها على لبنان، وتضع المفاوض اللبناني في موقع المهزوم مسبقاً قبل أن يبدأ التفاوض».