في إحدى المرات التي زارَت فيها السفيرة الأميركية دوروثي شيا بعبدا، تطرّقت من جملة المواضيع التي أثارتها مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى ملف الترسيم البري والبحري مع فلسطين المُحتلّة، من باب أن حلّه «سيُساعِد في تهدئة الأجواء بالجنوب وكل لبنان». هذا الملف حملته شيّا معها أيضاً إلى طاولة رئيس تكتّل «لبنان القوي» جبران باسيل في آخر لقاء (مُعلَن) بينهما، مُطالبةً بالحسم، وقد «عبّر لها بدوره عن إيجابية للتعاون» (»الأخبار»، 27 أيار 2020). سُرعان ما بدأ هذا الهمس يخرُج إلى العلن، وتخرُج معه شرارة اشتباك سياسي جديد في ظل الحديث عن انقسام يعتري موقف المسؤولين ومُحاولة لاسترداد ملف التفاوض من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليٌصبِح في عهدة الرئاسة الأولى.فقد علمت «الأخبار» من مصادر مطلعة على أجواء بعبدا، أن الرئيس عون بدأ منذ حوالى شهر يُسرّ إلى مقرّبين منه نيته إحياء التفاوض، لأن هذه الخطوة ستُخفّف الضغط عن لبنان، معبّراً بشكل غير مباشر عن استيائه من طريقة إدارة الملف سابقاً. ينطلق عون من الدستور اللبناني الذي ينيط به وحده صلاحية التفاوض وعقد المعاهدات الدولية، فيقول إنه في صدد العمل داخل الحكومة لاتخاذ قرار نقل الملف ليكون بين يديه عبرَ آلية جديدة تُحدد من أين يبدأ التفاوض وكيفيته وعلى أي أسس، ما يعني إمكانية نسف الإطار الموحّد الذي وضعه الرؤساء الثلاثة سابقاً، وأهم ما فيه التلازم بين البر والبحر. تزامناً مع هذا الجو، فُتحت قنوات اتصال دبلوماسية مع معنيين بهذه القضية، وتكثّفت بعدَ تأليف الحكومة «الإسرائيلية»، حاملة رسائل ضغط لاستئناف التفاوض. وفيما لم تكُن عين التنية بعيدة عمّا يُعَدّ، تُفضّل حتى اللحظة التزام الصمت على اعتبار أن «كل ساعة ولها ملائكتها»، لكن على الجميع أن «يعلَم مدى حساسية هذا الموضوع واستراتيجيته، والذي لا يُسمَح فيه بارتكاب أي دعسة ناقصة أو التفريط بكوب ماء أياً كانت الجهة التي تُفاوض».
أهمية تجدّد هذه المساعي تكمُن في كونها تتزامن مع التصعيد الأميركي ضد المقاومة في لبنان وفرض عقوبات عليها. وعلى ما يبدو أن واشنطن ستستخدِم سيف العقوبات لجرّ لبنان الى التفاوض، وفقَ ما تقتضيه مصلحة إسرائيل التي تستعجل الترسيم لما يؤمنه من استقرار يضمن سلامة التنقيب وعمل الشركات الأجنبية، وصولاً إلى رسم خط أزرق بحري، وربطه بصفقة القرن وغيرها من الملفات الإقليمية. ولم يعُد خافياً أن شيّا، كما غيرها من الموفدين، لمّحت في مرات عديدة إلى أن «الدعم المالي» الذي يحتاج إليه لبنان من المؤتمرات الدولية وصندوق النقد الدولي سيكون مرتبطاً بإنجاز ملفات عديدة، من بينها ملف الترسيم. وفيما أكدت مصادر عون أن «السفيرة الأميركية، وخلال لقائها رئيس الجمهورية، طرحت ملف الترسيم، لكن من دون التوغّل في تفاصيله»، أي إنها «لم تُعطِ إشارة لوجود مبادرة أو رغبة لاستئناف العمل به»، قالت إنه «لا معلومات بشأن وجود نية لدى عون استرداد الملف»، مشيرة إلى أنه «ليسَ في عهدة أحد، بل في عهدة الدولة اللبنانية كلها، وهناك تناغم في الموقف حوله». وفيما تضجّ الكواليس السياسية بهذا «الطارئ»، قالت مصادر في التيار الوطني الحر إن «هناك حركة في هذا الاتجاه، لكن ليسَ الهدف من ورائها افتعال مشكل مع الرئيس بري ولا مع حزب الله، بل لأن معاودة التفاوض فيها مصلحة للبنان».
حاول سعد الحريري مراراً استرداد الملف وأخذه الى مجلس الوزراء لكن فيتو حزب الله قطع عليه الطريق


ليسَت هي المرة الأولى التي يحاول فيها أطراف سياسيون سحب ملف التفاوض من بري. فعلها رئيس الحكومة السابِق سعد الحريري، وطلبها من حزب الله مراراً، ونقل وعوداً من «صديقه» جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره، بتقديم مساعدات مالية للبنان وحلّ أزمة اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين. وأكثر من ذلك، قال بصراحة إنه «يريد أن يقدّم لكوشنر هدية في المنطقة»، ساعياً لنقل الملف إلى مجلس الوزراء للتصويت عليه. لكن الحزب رفضَ ذلك بشكل حاسِم، مؤكداً للحريري أنه «يقف خلف بري، وما يقرّره الأخير نحن معه».
هذه الفكرة تأكّدت لأول مرة في جلسة لمجلس الدفاع الأعلى («الأخبار»، 26 كانون الثاني 2019) حين ظهر التباين بين رأيين في ما خصّ التفاوض عبر الأمم المتحدة على النقاط المتنازع عليها براً وبحراً في آن واحد. يومَها رأى كل من عون و باسيل والحريري أن لا مصلحة في الربط بين الحدود البرية والبحرية، لأنهما «مسألتان منفصلتان»، بحسب باسيل الذي قال إن «نقطة الـB1 لن تؤثر على ترسيم الحدود في حال الفصل، وإن الاتفاق على البحر والبرّ معاً لن يحصل إطلاقاً، لأن إسرائيل لم تسمح لنا بإجراء مسح على الحدود البحرية». لكن النائب علي حسن خليل نقل موقف عين التينة وحارة حريك، مشدداً على «الربط بين المسارين وأهميته». إلا أن الاندفاعة الأميركية في اتجاه التفاوض دفعت بالدولة اللبنانية في ما بعد إلى وضع إطار موحّد للتفاوض قائم على «التلازم بين البحر والبرّ وبدء التفاوض برعاية الأمم المتحدة وضيافتها بحضور وسيط أميركي، وإبقاء المهلة الزمنية مفتوحة»، لكن التفاوض على هذه الآلية جُمّد بعد تسلّم المبعوث الأميركي ديفيد شينكر الملف مكان سلفه ديفيد ساترفيلد.
من غير المستغرب القول إن حزب الله قد لا يقبَل بانتقال الملف من عين التنية، وسيُصرّ على إبقائه في عهدة بري، خصوصاً أنه مُدرك تماماً لحجم الضغوط التي تُمارَس من قبل الأميركيين، ومن جهة أخرى، لأهمية هذا الملف واستراتيجيته بالنسبة إلى حزب الله، خاصة في هذه المرحلة، وهو ما شدّد عليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرلله، تحديداً بعد فضيحة تهريب العميل عامر الفاخوري بمساعدة الدولة اللبنانية، حين اعتبر أن التنازل في موضوع الفاخوري سيدفع بالأميركيين الى طلب المزيد من التنازلات في ملفات أخرى، منها ملف الترسيم.