نجح العدوان الاميركي والاسرائيلي، على مدى عقود طويلة، في كيّ وعي شعوب وحكومات عربية. جرى إقناع الجميع بأن الكل عاجز عن المواجهة، وأن لا قدرة لشعب أو جهة أو حكومة على خلق وقائع تقارع «القدر» الاميركي. نجاح الدعاية لم يكن فقط بسبب فعل المعادين، بل بسبب تكاسل من هم في الجهة المقابلة أو تخاذلهم. وفي كل لحظة تخلّ عند قائد أو حكم أو حكومة عربية، كان العدوّان الاميركي والاسرائيلي يسارعان الى مدّ يد العون لتثبيت الأنظمة المتعاونة معهما. دعم على شكل إعانات تبقي أنظمة هؤلاء متماسكة ولو نسبياً، وتساعد الحاكم على فرض السيطرة على الشعوب ومقدراتها. حصيلة هذه السياسة، على مدى أكثر من سبعة عقود، أظهرت أن كل من تعاون مع الأعداء خسر نفسه وحكمه ونظامه، وأدخل شعبه وبلده في أتون من الحروب والفقر والتبعية. يكفي لمن يعاند هذه الحقيقة أن يراجع واقع مصر والعراق والسعودية والاردن وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في العقود الأربعة الأخيرة.فجأة، ومن خارج الحسابات التقليدية، خرجت في لبنان، وتبعتها في فلسطين، مقاومة من نوع مختلف، وقيادتها من نوع مختلف. لم تأت هذه المقاومة من أرض غريبة ولا من شعوب أخرى. لكنها حظيت بقيادة مميزة، وبدعم مستدام من دول لا تزال تدفع الى اليوم ثمن مقاومتها الاستعمار الاميركي والاحتلال الاسرائيلي، مثل إيران وسوريا. نجحت المقاومة ليس فقط في طرد العدو ذليلاً عام 2000، بل وفي منعه من العودة الى لبنان عام 2006، وهي لا تزال تردعه الى اليوم. والحال نفسها تنطبق على قطاع غزة، اليوم، تواجه إسرائيل عدواً جديداً يشتدّ عوده في اليمن، وزرعاً لا بد ان يُحصد في العراق. وعندما تخرج سوريا منتصرة من جولة الحرب الجديدة، سنكون أمام واقع مختلف في كل المنطقة.
كيّ الوعي انطلق أساساً من تثبيت فكرة العجز عن مواجهة الاميركيين والاسرائيليين. كانت حجة رافضي المقاومة أنه لا جدوى من كل التضحيات، وأن قدر أميركا وإسرائيل أقوى من أي مقاومة. وكان النقاش قاسياً ومكثفاً طوال فترة المقاومة في لبنان. وعندما تحقّق التحرير، وتحققت الجدوى، لجأ الأعداء أنفسهم، سواء من قبل العدوّين الاميركي والاسرائيلي أم من أنصارهما في بلادنا، الى رفع عنوان جديد، وهو الكلفة؛ بمعنى أن كلفة مقاومة الاحتلال كبيرة وشعوبنا غير قادرة على تحمّلها. وهو ما يجري تسويقه اليوم، عندما يقال إن ترك البندقية يتيح لنا الفوز بالاستقرار والازدهار. هؤلاء يعتقدون أن كلفة العيش تحت الاحتلال أقل من كلفة مقاومته. وهم أنفسهم من يستعدّون، كل عقد من الزمن، لإحراق بلادهم وشعوبهم من أجل بقائهم في مواقعهم. وعندما جاءت تجربة المواجهة الكبرى عام 2006، ثم إفشال الحرب على سوريا، دلّتنا المقاومة ليس فقط على قدرتنا على الصمود وعلى جدوى مقاومتنا، بل على قدرتنا على تحمل كلفة هذا الخيار. من يومها، انتقل كل الأعداء إلى العمل وفق خطة جديدة، عنوانها لا يتعلق بالجدوى والكلفة، بل بالنتيجة، ومحاولة إقناعنا بأن من يزرع المقاومة سيحصد بلاداً يسودها الخراب والجوع!
معاركنا من أجل حكومات عادلة وفساد أقل جزء من مواجهة الاحتلال والمؤامرات


ما يفعله العدوان الاميركي والاسرائيلي، اليوم، من عمليات إنهاك للحكومات، وضربها بكل الطرق، وتدمير الشعوب والمجتمعات من خلال الحروب الأهلية المتنوعة، وتعزيز الفتنة، وفرض العقوبات ومنع التطور الاقتصادي والعلمي وكل أنواع الحصار، إنما هدفه القول إن النتيجة ستكون أكثر قساوة لمن يعتقد أن في إمكانه إلحاق الهزيمة بالمشروع الاميركي – الاسرائيلي.
قانون قيصر هو الواجهة الجديدة لهذا الصراع. هو، باختصار، الأداة التي يعتقد الاميركيون وأعوانهم أنها الأنجع لأخذ النقاش الى مكان آخر. وبعد سقوطهم في اختبارَي الجدوى والكلفة، يريدون أن يفرضوا علينا بنداً جديداً اسمه: ما هي نتيجة ما تقومون به؟
المهم، اليوم، الى جانب مواجهة الأعداء، مناقشة الأهل والأصدقاء، خصوصاً الذين يقعون تحت تأثير الدعاية لإقناعهم بأن خيار المقاومة هو سبب تراجع الأوضاع الاقتصادية في دول كثيرة. هؤلاء لا يراد لهم أن يسألوا: كيف تخشى أميركا التي تحارب في كل بقاع الأرض بلداً صغيراً مثل كوبا، وتواصل حصارها منذ انتصار ثورتها في خمسينيات القرن الماضي؟ ولا يراد لهم أن يسألوا عن سبب استمرار العقوبات على كوريا الشمالية منذ زمن بعيد أيضاً، وعلى إيران منذ أربعة عقود؟ ولا أن يسألوا عن سبب محاصرة سوريا وقهرها يوماً بعد يوم منذ رفضها الخضوع لمصالح العدو. هؤلاء، يريدون للناس أن يتجاهلوا في قراءاتهم تأثير التدخلات الأميركية في أوضاع فنرويلا والعراق وغيرهما. الهدف الفعلي هو جعل الجمهور يتصرف على أساس أن الحاكم في هذه الدول هو المسؤول عن الخراب القائم، لا أن يحمّل الغرب وحلفاءه المسؤولية عن هذا الخراب واستمراره.
بهذا المعنى، يمكن فهم أن الحملة على سوريا وعلى المقاومة في لبنان ستأخذ شكلاً جديداً. يريد الاميركيون، ومعهم حلف الأعداء من إسرائيل الى السعودية الى مجانين العصر، أن يثبّتوا في عقول الناس، أنه في حال شعرتم بالزهو لانتصاركم على إسرائيل وأعوانها بالمقاومة المباشرة، فعليكم أن تعيشوا القهر لأنكم أخذتم هذا الخيار.
مهمة جماعة أميركا وإسرائيل رفع مستوى الكذب والتلفيق، لتثبيت فكرة أن من يريد تبنّي خيار مقاومة أميركا عليه الموت جوعاً!
أمام هذا الصنف الجديد من المواجهة، لن يكون بمقدورنا سوى إظهار قدرتنا على صنع وقائع تثبت، ليس جدوى خيارنا في المقاومة، فقط، واستعدادنا لدفع الكلفة لتحقيق هذا الاستقلال، بل قدرتنا على حماية المنجزات من خلال بناء مجتمعات ودول قادرة على التطور الى جانب الصمود. ويفترض بنا القتال ضد الفساد والتخريب والتفتيت الداخلي، باعتبار هذه العناوين ملحقات طبيعية للاحتلال والاستعمار، وهي التي تمثل مدخل الأعداء الى ساحتنا الداخلية.
اما بالنسبة الى الأعداء أنفسهم، فمن الواضح أنهم سمعوا أمس الرسالة الأكثر وضوحاً، بأننا لن نتركهم يفعلون ما يريدون وكأن لا وجود لنا. ومن يطرق الباب من خلال الحصار والعقوبات والجرائم، سيسمع الجواب المناسب.
أهلاً بالمعارك!