مرة جديدة، يُصفَع «حزب المصرف» من «بيت أبيه»... صندوق النقد الدولي. في النظر إلى التفليسة التي لم تجد بعد من يديرها، يتمسّك «حزب المصارف»، في المصارف و«الهيئات الاقتصادية» وبعض الأحزاب والكتل النيابية، بموقف رافض لأرقام الخسائر التي وردت في الخطة التي أقرّتها الحكومة تحت عنوان «خطة التعافي المالي». هذا الحزب، الذي بات رئيس لجنة المال والموازنة النيابية إبراهيم كنعان أحد الناطقين باسمه (يعاونه النائبان ياسين جابر ونقولا نحاس على تنفيذ اتفاق بعبدا الذي عُقِد بين الرؤساء الثلاثة يوم 12 حزيران 2020)، يصرّ على خفض أرقام خسائر القطاع المالي (خسائر المصارف ومصرف لبنان) بصورة كبيرة، ويتهم الحكومة بتضخيم هذه الخسائر إما عمداً أو عن سوء تقدير. مرة جديدة، يأتي الرد على «حزب المصرف» من صندوق النقد الدولي. فيوم أمس، عبّر نائب مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، أتاناسيوس أرفانيتيس، عن قلقه من «المحاولات لتقديم خسائر أقل وإرجاء إجراءات صعبة في المستقبل، وذلك لن يؤدي إلا إلى زيادة تكلفة الأزمة بتأجيل التعافي». ودعا الى «تكاتف السلطات حول الخطة الحكومية، مشيراً الى أن الصندوق مستعد للعمل مع السلطات لتحسين الخطة إذا اقتضت الضرورة». أما «إرجاء اتخاذ القرار، فلن يؤدي إلا إلى تدهور التوقعات للاقتصاد»، بحسب المسؤول في صندوق النقد الدولي.
(هيثم الموسوي)

وجهة النظر التي عبّر عنها المسؤول في الصندوق تقول إن تقليص الخسائر لا يؤدي إلى إلغائها، بل يعني إخفاءها، والاستمرار بالسياسات النقدية والمالية والاقتصادية نفسها التي أوصلت البلاد الى الانهيار. وهو يعني أيضاً محاولة إنقاذ بعض الأطراف من تحمل كلفة تغطية هذه الخسائر، عبر تحميلها للناس وأصحاب الودائع الصغيرة. وتلك الجهة، أي «حزب المصارف» لا تخفي وجهها، بل تقوم بكل ما يلزم لإسقاط الخطة الحكومية حماية لرأسمالها. لذلك تعمد الى فرض مشروع بديل يقوم على بيع أملاك الدولة لإطفاء خسائر مصرف لبنان والمصارف، وتحميل الفئات الأكثر ضعفاً تداعيات السياسات النقدية الخاطئة والهندسات المالية، عبر تسديد الودائع المحتجزة بالدولار داخل المصارف بالليرة اللبنانية ووفق سعر صرف أدنى بكثير من سعر الصرف السوقي.
مشروع «حزب المصارف» حالياً يقضي بإسقاط المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد. وثمة معضلة هنا: الاتفاق مع صندوق النقد على تنفيذ برنامج برعايته، يعني فرض وصايته على لبنان. والتجارب الدولية معه لا تبشّر إلا بالسوء. في المقابل، صندوق النقد هو القوة الوحيدة القادرة على إلزام «حزب المصارف» بتحمّل جزء من الخسائر، وصولاً إلى استخدام كامل رساميل المصارف لسد جزء من تلك الخسائر. ويوم أمس، عبّر الناطق باسم هذا الحزب، النائب ابراهيم كنعان، عن المشروع المذكور. يصر كنعان على تبني قراءة منفصلة عن الواقع. حتى حين خرج الصندوق مرة أخرى ليكذّب ادعاءات «لجنة تقصي الحقائق» التي ترأسها كنعان، وليحذّر من تداعيات التلاعب بأرقام الخسائر المالية، لم يجد نائب المتن حرجاً في الادعاء مجدداً أن مقاربة لجنته هي الأصح، متهماً الصندوق بعدم الدقة. وسأل يوم أمس عقب انتهاء اجتماع لجنة المال والموازنة النيابية: «أين الخطأ إذا تبيّن أن أرقام خطة الحكومة بحاجة إلى تصحيح؟ وأين الخطأ إذا تبين أن الخسائر المحددة من قبل الحكومة وصندوق النقد بمقاربة إفلاسية غير دقيقة، لأنها يجب أن تكون مقاربة تعثر ونقص بالسيولة؟».
كلام كنعان لم يأت عن عبث، بل هو إعلان صريح عن رغبة من يمثلهم في تطيير المفاوضات مع صندوق النقد المتوقفة أصلاً نتيجة اختلاف بين أرقام الحكومة من جهة، وأرقام مصرف لبنان والمصارف التي تبنتها لجنة تقصي الحقائق من جهة أخرى. تبنتها تلك اللجنة، من دون أي التفات إلى تداعيات عمل مماثل على حقوق الناس وعلى الوضع الاقتصادي المنهار، في ظل عدم تقديمها أي طرح بديل لمعالجة الانهيار المالي من خارج صندوق النقد. فتلك اللجنة لم تُجب عن سؤال طرحه أحد أعضائها (النائب علي فياض)، حين قال لزملائه: «حسناً، لنفترض أن أرقام الخسائر المخفضة التي تقدمونها صحيحة، يبقى علينا أن نجيب عن سؤال: من سيتحمّل هذه الخسارة؟ من سيدفعها؟».
بالطبع، لم يُجب نواب «حزب المصارف». حتى كنعان عمد الى تهريب تقرير عمل لجنة تقصي الحقائق، إذ لم يعرضه على لجنة المال والموازنة لتبنّيه، بل اكتفى بإطلاع أعضاء اللجنة على ملخص للتقرير الذي قدمه حصراً إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي لا يزال يخفيه. لم يكلّف كنعان (ومعاونوه وداعموهم) نفسه عناء تقديم البديل من خطة الحكومة التي شيطنها، بل اكتفى بالوقوف على المنبر والصراخ: «أوقفوا الكذب، فأنتم حزب المصارف، وأنتم مسؤولون عن هذه السياسات التي تدّعون أن أرقامها صحيحة». يمعن في إخفاء الحقائق عبر تنصيب نفسه حامياً للودائع وحريصاً على أموال الناس. من هذا المنطلق، يغتنم الفرص لتشويه الخطة الحكومية وتفسيرها على هواه لتحريض الناس ضدها عبر الزعم أنهم سيخسرون أموالهم. هذا «الحرص» دفعه أمس الى السؤال عن إمكانية استعادة الأموال المنهوبة: «حرام القول للمودع إن هناك إطفاء للخسائر من خلال استعادة 10 مليارات دولار». على اعتبار أن ما يحصل اليوم من طبع للعملة المحلية وتسييل للودائع، وإجراء قص شعر ضمني للودائع بالعملة الأجنبية عبر إجبار أصحابها على تقاضيها بالليرة اللبنانية، لا يدخل ضمن استراتيجية إطفاء الخسائر من الودائع. مجدداً، سأل كنعان، أمس، عن «كيفية استعادة الحكومة للفوائد المضخمة، وبموجب أي قانون؟ وأين مشروع القانون الذي أحالته الحكومة الى المجلس النيابي لدرسه؟ وكيف ستستعاد عائدات الهندسات المالية؟». ويضيف: «دعت خطة الحكومة الى إعطاء أسهم في المصارف للمودعين. فعن أي مصارف يتحدثون؟ فيما المصارف في طور الإفلاس وأوضاعها معروفة بعد تطبيق الخطة، وفي حال العجز عن تأمين الأموال المحددة، فالـ 64 مليار دولار ستطال ودائع الناس». لكن ما لا يقوله الناطق باسم «حزب المصارف» أن احتمال إعطاء أسهم في المصارف للمودعين، بحسب الخطة الحكومية، لن يصيب إلا أصحاب أقل ألف حساب مصرفي، وأن الاقتطاع لن يطال قيمة الوديعة، بل جزءاً صغيراً منها.
سؤال كنعان الموجّه إلى الحكومة عن مشاريع قوانينها الرامية إلى «استعادة الفوائد المضخمة وعائدات الهندسات المالية»، كلام حق يُراد به باطل. فالحكومة لم تقدّم فعلاً أي مشروع قانون بهذا الصدد. لكن كنعان يعلم أن تراجع تكتله النيابي، كما كتلة التحرير والتنمية، عن دعم الخطة الحكومية، يعني حُكماً استحالة إصدار أي مشروع قانون لاستعادة الفوائد، كما استحالة أن يُبصر أي قانون النور في حال تقدّم نواب باقتراح قانون إلى البرلمان.

تطيير «الكابيتال كونترول»
من جهة أخرى، لم يسلك اقتراح قانون تقييد تحويل رؤوس الأموال «كابيتال كونترول» طريقه الى خارج لجنة المال والموازنة. هذا الاقتراح ليس مجرد مسألة تقنية، بل إنه ممر شبه إلزامي لأي محاولة لضبط سعر الصرف. تأخر إقراره، إلى أن جرى تهريب مليارات الدولارات الى الخارج، بحسب ما أكد المدير العام لوزارة المالية المستقيل ألان بيفاني، في حديثه الى «الفاينانشل تايمز». وليس مستغرباً هنا أن يقف كنعان في صف المصارف رامياً المسؤولية على الحكومة لعدم إرسالها مشروع القانون منذ اليوم الأول، من دون أن يقوم بتصحيح هذا الخطأ. بل على العكس، قال كنعان إن «المجلس النيابي ليس مستعداً لإعطاء أي خطوة إضافية تقيد المودع باستعمال ودائعه، من دون إعطائه حقوقه في المقابل، ومن دون أن يتحدد بشكل واضح ما يمكن أن تتحمله الدولة والمصارف ومصرف لبنان تجاه هذا المودع». وأضاف: «كما أننا أخذنا موقفاً الى جانب المودع خلال نقاشنا خطة الحكومة، بمحاولة لاستعادة الثقة التي تمهد لاستعادة الودائع، كذلك سنكون الى جانب حقوق المودعين في ما يتعلق بالكابيتال كونترول».
القوى التي قدّمت اقتراح الـ«كابيتال كونترول» أسقطته أمس في لجنة المال والموازنة

إشارة الى أنه بعد إسقاط صفة العجلة عن اقتراح القانون في أيار الماضي في الهيئة العامة لمجلس النواب، تمّت إحالته إلى لجنة المال والموازنة لإعادة صياغته وإدخال التعديلات المطلوبة عليه. لكن جرى التوافق في جلسة اللجنة أمس على أن يأتي مشروع الـ«كابيتال كونترول» من الحكومة وضمن خطتها. وبدا واضحاً أن القوى التي تقدّمت بالاقتراح (تحديداً التيار الوطني الحر وحركة أمل)، قررت التراجع عنه. وقالت مصادر اللجنة إن كنعان «افتتح الجلسة بمداخلة مطولة اعتبر فيها أنه لا يُمكن مقاربة هذا الإجراء بمعزل عن المعالجات التي يجب أن تتحقق، بل من ضمن مقاربة شاملة»، قبلَ أن يُشير النائب ياسين جابر (وهو أحد الموقعين على اقتراح القانون) إلى أنه «أُعدّ على عجل، وأن هناك الكثير من الأمور التي لم تؤخذ في الاعتبار». غير أن مداولات النواب ركّزت في كثير من الأحيان على أن إقرار الاقتراح قد تأخر، وأنه لم يُعد هناك أموال في المصرف المركزي والمصارف لكي توضع القيود عليها، وأن الإجراء كان يجب تطبيقه يوم أقفلت المصارف أبوابها، لكن التلكّؤ هو من أضرَّ بالوضع المالي. بينما الرأي الغالب كان لمصلحة أن تتولّى الحكومة إصدار مشروع قانون لأن الاقتراح الحالي «غير مكتمل وغير قابل للتطبيق بالصيغة التي طرح بها».

سلمت «الوفاء للمقاومة» عريضة ضد تصريحات شيا الى حتّي لاتخاذ الإجراءات المناسبة


على مقلب التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ما زالت النقاشات تتركز حول هوية الشركات التي سيكلفها مجلس الوزراء بالقيام بهذه المهمة، وسط تحدث بعض الوسائل الاعلامية عن تهديد رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية بالاستقالة في حال السير بهذا التحقيق. ونفى المكتب الاعلامي لبري ما نُشر، مؤكداً أن «ما ورد عار من الصحة، والدليل على عدم صحة ذلك هو أن وزير المالية غازي وزني قد تقدم بطرح اسم شركة جديدة للقيام بعملية التدقيق، وأن رفضه للشركة السابقة كان لوجود شبهة التعاون مع العدو الإسرائيلي ليس إلا». الا أن المستغرب هو اللامبالاة في أداء الحكومة والسلطة مع ملف بهذه الأهمية والخطورة. ويجب على وزارة المال المعترضة على شركة كرول لارتباطها بالعدو الاسرائيلي أن تعمد الى اقتراح شركة أخرى لتنفيذ هذه المهمة أو العمل على تشكيل لجنة تحقيق داخلية. رغم أن ثمة من يقول إن هذه المهمة منوطة بأشخاص ذوي خبرة واختصاص، وبوسائل محددة يصعب على القضاة اللبنانيين اعتمادها.

عريضة ضد تدخلات شيا
من جهة أخرى، ما زالت تداعيات تصاريح السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا مستمرة. وقد تقدمت كتلة الوفاء للمقاومة برئاسة النائب محمد رعد بعريضة احتجاج على هذه التصريحات الى وزير الخارجية ناصيف حتي. وقال رعد إن العريضة احتجاج رسمي على التصريحات والتجاوزات للقواعد والأصول والأعراف والقوانين الديبلوماسية التي قامت بها السفيرة الاميركية خلال الفترة الماضية التي بدأتها منذ بدء مهامها». أضاف: «نحن بكل وضوح، نقول إن احترام القواعد والأصول الديبلوماسية يرتد إيجاباً على سمعة السفيرة ومن تمثل، لكن خرق الأصول والقواعد يعطي انطباعاً سيّئاً عن النموذج الذي يتم تقديمه بعيداً عن الديبلوماسية. مهمة السفير في الدولة المعتمد لديها أن يخاطب بلغة ديبلوماسية، وأن يتصرف وفق القوانين التي ترعى وتنظم عمله في تلك الدولة». والتدخل في الشؤون الداخلية ينطلق من «التعيينات وصولاً الى تحديد موقف تحريضي ضد فئة من اللبنانيين، والإسهاب في الكذب والتضليل حول دور هذه الفئة لناحية تأثيرها على اقتصاد البلد وعلى خزينته وماله، وتتصرف كحامية للبلد. نحن بلد حر مستقل له سيادته، وشعبه له كرامته، وحكومته ومسؤولوه لهم كرامتهم أيضاً، ولا يجوز التخاطب بهذه اللغة، بل يجب أن يضبط الخطاب وفق بنود اتفاقية فيينا». وطلب الوفد من حتي اتخاذ الإجراءات التي يراها مناسبة لضبط سلوك السفيرة وتصريحاتها.