بين ضجيج التعليقات على صرف الجامعة الأميركية في بيروت أكثر من 600 موظف تعسفياً، تغريدة تعطي إشارة في إحدى سطورها عن عقلية منتشرة لدى شريحة في المجتمع اللبناني وفي العالم. في 18 تموز، نشرت النائبة بولا يعقوبيان في حسابها على «تويتر» تغريدة تنتقد الجميع، من دون أن تغضب أحداً.
شكّكت يعقوبيان بتغريدتها في أرقام رسمية تظهر الفجوة الهائلة في المداخيل بين كبار موظفي الجامعة وإدارييها من جهة، وموظفيها الآخرين من جهة أخرى، وختمت بدعوة إلى «البدء باقتطاع المعاشات العالية»، من دون تسمية الجامعة أو رئيسها. واللافت في التغريدة هو الجملة التي سبقت هذه الدعوة، إذ كتبت يعقوبيان أنّه في «أكثر الأوقات، أيّ اقتطاع من المصاريف التشغيلية يبدأ بالطبقات الأكثر حاجة للعمل» - أي إنّ صرف مئات الموظفين هو حق لأيّ مؤسّسة خاصة تبغي الربح، وأمرٌ طبيعي يحصل «أكثر الأوقات».
يعقوبيان ليست وحيدةً في اعتبارها هذا الموقف «طبيعياً». ما حصل في الجامعة الأميركية في بيروت ليس طبيعياً بأي شكل من الأشكال. صرف جماعي لـ600 شخص دفعة واحدة ليس طبيعياً. تقييد حريتهم في استخدام أجهزتهم والإنترنت داخل المكتب قبل صرفهم من دون سابق إنذار ليس طبيعياً. طلب إدارة الجامعة الحماية من القوى الأمنية والجيش لإبعاد من أمضوا سنوات من عمرهم بالعمل فيها ليس بالأمر الطبيعي.
ولكن، في الأيام الأخيرة، خرج العديد من الشخصيات العامة بمواقف تجتمع على تحييد إدارة الجامعة من أي نقاش حول لا إنسانية تصرفها وصرف النظر عن أي حديث حول الدور الأميركي في الأزمة الاقتصادية الحالية، ووضع إطار محدود لسردية الصرف، تقوم على لوم الحكومة الحالية وداعميها حصراً على أزمة جديدة من ضمن الأزمات العديدة والشديدة التعقيد التي تتفاقم منذ سنوات طويلة.
لكن، إذا ما بنى صاحب مصلحة سرديته وفق مصالحه، فهذا الأمر طبيعي. مساء 17 تموز، استضافت LBCI نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون للحديث عن عملية الصرف الجماعي، فعلّق في سياق الحديث بأنه يتعجب «من أن يتعجب أحد ممّا حصل». هارون رأى أنّ الأمر طبيعي أيضاً، نظراً إلى أن القطاع الاستشفائي يعاني من أزمتي التأخر في تسديد مستحقات المستشفيات وسعر صرف الدولار. وقال: «هذه مؤسسات خاصة مجبرة على أن تحقق الأرباح، لأنها إذا لم تحقق الأرباح، فستقفل. وهذه المعادلة بسيطة جداً. لا تستطيع ألا تربح. أما الأرباح التي كنا نحققها، فكنا نعيد استثمارها في القطاع الاستشفائي، نشتري ماكينات ونجددها».
وإذا بنت قناة تلفزيونية سردية تتماهى ووصف رئيس الجامعة الأميركية فضلو خوري الحكومة الحالية مؤخراً بأنها «الأسوأ في تاريخ لبنان»، وتلاقيا مع مساعي دولة عظمى لتوجيه اللوم نحو طرف واحد فقط، فهذا أمر طبيعي أيضاً.
قناة mtv، على سبيل المثال، لم تصوّب في مقدمة نشرتها المسائية في 17 تموز على إدارة الجامعة الأميركية، بل اكتفت باعتبار أنّ إدارة الجامعة فعلت ما فعلته بـ«دم بارد»، لكنها وضعت الصرف الجماعي في خانة «الحوادث العالية الرمزية» التي «تنذر بأن الاصطدام في قعر المنحدر صار قريباً وسيكون مؤلماً». ثم اشتكت قناة «المر»، المدافعة عن الاقتصاد الحر، وبالتالي «طبيعية» صرف الموظفين ضمن القطاع الخاص، من غياب الدولة كضابط للاقتصاد، قائلةً: «لا دولة ولا حماية ولا من يسأل».
وقبل أن يشكك المشاهد في سردية «طبيعية» الصرف الجماعي، ذكّرت مقدمة النشرة المشاهد بـ«البوصلة»، وبأنّ «المؤامرة» ليست سوى نظرية يتبنّاها الشرقيون غير المتنوّرين لتفسير فشلهم. وأكملت: «والمهم ألا يطلع علينا حسان دياب للحديث عن مؤامرة أبطالها موظفو المستشفى والإدارة الأميركية...».
اشتكت قناة «المر» المدافعة عن الاقتصاد الحر و«طبيعية» صرف الموظفين من غياب الدولة كضابط للاقتصاد!


في الإطار نفسه، يأتي موقف مدير مجموعة «إم بي سي» علي جابر، الذي لم يجد أي أثر في مأساة موظفي الجامعة الأميركية لإدارة الجامعة، بل حمّل «الطبقة المالية والسياسية» مسؤولية ما حدث، مضيفاً: «لا خيار إلا الثورة»، مع وسم «لبنان ينتفض». أما فارس سعيد، فقد وجد في مأساة 600 عائلة فرصة جديدة لـ«العبور إلى الدولة»، رابطاً الأزمة المالية بسلاح المقاومة، ومهوّلاً: «ما حصل في الجامعة الأميركية بداية» من دون أن يحدّد ما هو الذي سيبدأ.
وبعيداً عن السياسة اللبنانية وكل ما يتضمنها من نكد وأحقاد ونيات سيئة، الصحافية اللبنانية الأميركية رانيا الخالق توصلت إلى الخلاصة نفسها، ولكن من منطلق أكثر علمية. نعم، صرف أكثر من 600 شخص تعسّفياً من مؤسسة تربوية واستشفائية خاصة هو أمر «طبيعي»، بالفعل، لأن المؤسسات الأميركية تضع الربحية فوق كل اعتبار، حتى في الولايات المتحدة، فكيف ببلداننا التعيسة؟ وقالت: «كما غالبية الجامعات في الولايات المتحدة في عصر النيوليبرالية، تتصرف الجامعة الأميركية في بيروت كشركة. الموظفون الكبار سيحافظون على رواتبهم الضخمة، في حين أن الموظفين أصحاب الرواتب المتدنية سيرمون في الشارع. الأمر لا يحصل في لبنان وحده».
علا بعض الأصوات المتمرّدة، رافضاً قرار إدارة الجامعة الأميركية الجائر. ومن هذه الأصوات، الأستاذ المساعد في قسم علم الأمراض والطب المخبري، سامر ناصيف، الذي أرسل رسالة إلى طلابه عبر البريد الإلكتروني، اعتبر فيها أنّ «روح الجامعة الأميركية ماتت اليوم وهي لن ترقد بسلام».
أما الأستاذ المساعد في قسم الطب النفسي جوزيف الخوري، فقد طالب في تغريدة على تويتر إدارة الجامعة بأن تكون شفافة حول كيفية وصولها إلى عجز في الميزانية، فيما زميلته في القسم ميا عطوي، انتقدت في منشور على فيسبوك تصرف الجامعة، الذي جعلها تفقد اعتزازها بالانتماء إليها، متعجبة بمنعهم حتى من التعبير عن غضبهم. وأنهت عطوي منشورها بالقول: «وفي المكاتب والمباني الزجاجية بقي من يتقاضى مئات آلاف الدولارات».