لم تبدأ قصص مئات المصروفين تعسّفياً من الجامعة الأميركيّة في بيروت، يوم الجمعة الفائت، حينما طُردوا بشكل مُذلٍّ ومنافٍ للكرامة الإنسانيّة، في حضور العسكر والأمن. قصصُهم بدأت قبل عقود، مع دخولهم صرحاً اعتبروه مصدراً للقمة عيشهم، فتخلّى عنهم «كالفِجْل»، وهو وصفٌ نستعيره من أحد المصروفين.قصصهم كثيرة، رواها بعض هؤلاء الذين اعتصموا أمام مدخل المستشفى أمس. بعضهم رفضوا ذكر أسمائهم... لأنّ من حُرموا من عملهم وغادروه بأعطاب جسديّة دائمة، لا يزالون يخشون الكلام، خوفاً من إجراءات قد تطاول «تعويضات» وُعدوا بها، ولم تُصرف - إلى حينه - لهم.
من نوافذ مبنى المستشفى، وقف إداريّون وموظّفون وأطباء وممرضون ينظرون، «من فوق»، إلى المعتصمين «تحت» في باحة المدخل. المعتصمون لم يتعدّوا العشرات، من أصل مئات المصروفين تعسفيّاً، لأنّ ديكتاتوريّة الإدارة وتهديداتها لا تزال تؤثّر فيهم، رغم صرفهم. وهو السبب نفسه الذي حال دون تضامن الموظّفين الحاليّين ومشاركتهم في اعتصام من كانوا زملاء لهم حتى يوم الجمعة الماضي.
صرخات، بكاء، لافتات، هي أشكال التعبير التي اختارها عدد من المصروفين خلال اعتصامهم. بعضهم لا يملك بديلاً لأنّه، ببساطة، يعاني من أعطاب جسديّة نتيجة حوادث عمل تعرّض لها في المستشفى نفسه. بعضهم الآخر فاقت سنوات خدمته الأربعين عاماً ووُعد بتعويض «بخس» لا يعلم إن كان سيحصل عليه أصلاً.
افترش «علي» (36 عاماً) الرصيف أمام المركز الطبي، وحمل لافتة كتب عليها: «عطبوني وحقّي سلبوني ومن المستشفى زعبوني». إنها اختصار 13 عاماً من العمل في قسم العناية الفائقة، والتعرّض لثلاثة حوادث عمل أحدثت أعطاباً في يده وأوجاعاً دائمة في الرقبة والظهر. يسأل: «من سيشغّلني بهذه الأعطاب؟». المظاريف التي تلقاها المصروفون يوم الجمعة الماضي، «ليست سوى وعود، وتعويضات غير عادلة، ولا نعلم إن كنا سنحصل عليها لأنها لا تزال حبراً على ورق». لا يجد علي الذي يحمل ثلاث شهادات سوى عبارة «على الله» لإعالة والد مريض وشقيق بلا عمل. مع ذلك، لا يحقد على زملاء ممن لا يزالون في عملهم لعدم تفاعلهم: «يمكن خايفين على أنفسهم، ومع صرفنا سيزيد ثقل العمل عليهم».
«والدتي موظّفة في قسم المختبر. عمرها 59 عاماً، قضت 37 عاماً منها في المستشفى. ربما كانت آخر إجازة حصلت عليها يوم ولادتي!». يتابع نجل الموظّفة المصروفة: «قبل أسبوعين خضعت لعمليّة في القلب، ورغم ذلك كانت موجودة يوم الجمعة على مكتبها حين أغلق حاسوبها فجأة».
عمل خالد (59 سنة) في خدمة البريد في الجامعة منذ عام 1983. يحسب سنوات خدمته، ويتحسّر على عدم تلقّيه أي إنذار، «لكنّني لم أحصل من إدارتي على درجة استثنائيّة... ومع ذلك صُرفت. أنا عندها بسوى فجلة!». توزيع أسماء المصروفين يوم الجمعة الماضي، وتبدّل اللوائح بسبب «واسطة أو اتصال»، نتج منه طرده «لأن ما إلي حدا وما إلي ضهر». أما الأشهر الموعودة من الإدارة للتعويض على الموظّفين «فهي لن تساوي شيئاً. شو بتعمل 24 شهر تعويض بعد أكثر من 30 سنة خدمة؟ شو بتساوي بهالوضع؟ وكيف أسدّد القروض؟». ما يحزّ في قلبه أكثر، أنه «خلال الحرب اللبنانية، وحرب تموز، وكل الأحداث الأمنية... لم أتغيّب يوماً». أما ما تبقّى له ولأولاده الخمسة ووالدته التي يعيلها، نسخة من كتاب «شكر وتقدير للشجاعة والتفاني» وجّهته إليه دائرة الخدمات العامة في المركز الطبي عام 1989، «لأني أطفأت حريقاً تحت القصف في سيارة صودف أنها للوزير عادل عسيران».
تهديدات الإدارة لا تزال تؤثّر فيهم رغم صرفهم


ثلاثيني مصروف من قسم غسيل الكلى، أب لثلاثة أولاد. عمل لسبع سنوات فقط في المستشفى، «ما يعني أنني سأنال تعويضاً بقيمة رواتب 7 أشهر، علماً بأن أساس راتبي 841 ألف ليرة؟». والحل «سأترك منزلي المستأجر، أبيع عفشه، وأسكن في منزل أهلي».
مصروف ستّيني، عمل في قسم الصيانة طوال 41 سنة «انتهت بظرف شهادة حسن سلوك وكلام لا يمكن تقريشه، قبل خمس سنوات من تقاعدي»، والإذلال الأكبر «كان عبر استرجاع مسؤولي القسم المفاتيح وعدّة الشغل منّا»، وفق زميله الآخر في القسم نفسه، إذ «عاملونا كالمجرمين الدخلاء على المؤسسة بعدما عملنا فيها لعشرات السنوات». سيحصل الزميل الذي رفض ذكر اسمه، مثل كثيرين، «على رواتب 24 شهراً كتعويض عن 30 سنة خدمة، وهي وعود قالوا إن علينا تسلّمها في 4 آب المقبل»، وهو «رب عائلة وأستأجر منزلاً بأرخص منطقة، وراتبي لا يتعدّى مليوني ليرة... خسرت أيضاً، نسبة 12% زيادة على راتبي حسب سنوات الخدمة كنت سأحصل عليها في آذار المقبل».
إلى القصص المرويّة، ثمة أسئلة يطرحها المصروفون ويتركونها برسم الإدارة، حول المبالغ التي أُنفقت بملايين الدولارات على مبانٍ مستحدثة، والمبالغ المصروفة على تجديد أثاث مكاتب العمداء، ورواتب كبار الإداريين بالدولار مقابل رواتبهم الضئيلة بالليرة. يسألون أيضاً، عن معايير صرفهم، وإن كانوا إرهابيين بالنسبة إلى مؤسستهم التي أحضرت هذا العديد من الجيش والدرك، فيما لا يجدون ما يقولونه حيال التضامن الخجول من قبل زملائهم إلا التبرير بأنه «الخوف».