استقبل لبنان وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، وهو يعرف مسبقاً أن فرنسا لا تحمل إليه سوى أقوى الرسائل المحذّرة من خطورة ما ينزلق إليه. الرسالة التي أبلغها لودريان إلى المسؤولين اللبنانيين - بعبارات واضحة - حذّر فيها من مغبة الفساد وعدم تحقيق الإصلاحات، مسمياً في صورة واضحة قطاع الكهرباء ومشدداً على أهمية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. لأن الأداء الذي أوصل لبنان إلى ما هو عليه، ليس سوى نتيجة ممارسات القوى السياسية نفسها التي تطلب المساعدة اليوم. لكن كيف استقبل لبنان الوزير الفرنسي؟كان يفترض أن يكون لبنان مستعداً لما سيطرحه الوزير الفرنسي، وخلفه دول أوروبية وخليجية، إضافة إلى واشنطن، وعلى الأقل يقدم أداء مختلفاً ورؤية جديدة لما يمكن القيام به محلياً من أجل حث «المانحين» على التعاطف معه لا تأنيبه. لكن ما حصل هو العكس: مفاوضات صندوق النقد متوقّفة؛ مجلس النواب يدرس تشريعات وكأن البلد بألف خير. فوق كل ذلك، و قبل 48 ساعة جاء قرار المجلس الدستوري بإبطال قانون آلية التعيينات لمخالفته الدستور بناءً على مطالعة قدمها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى المجلس. ليس النقاش حول القانون ودستوريته في هذه المرحلة تحديداً.
أعضاء المجلس فنّدوا في مطالعتهم أسباب قبول الطعن، لكن النقاش في هذه المرحلة سياسي بالدرجة الأولى، لأن الطعن بالآلية يتخطى الدستور رغم أحقيته، ومن دون جدال التفنيدات التي أوردها أعضاء المجلس في قرارهم. فالفريق الذي قدمه، لم يقدمه لأسباب دستورية فحسب، بل لأنه هو الذي بات منذ أربع سنوات يتحكم بلعبة المحاصصة الإدارية وتوزيع الحصص ويرغب في الاستمرار فيها تحت سقف الحفاظ على الدستور. كان يمكن لهذا النقاش أن يدور في البلد في زمن الترف السياسي، لكن أن يصار إلى طلب نسف الآلية حالياً لا يتعلق بالدستور، بل بإعطاء فرصة أكبر للقوى السياسية ذات الأكثرية حالياً في مجلس الوزراء، أن تذهب لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في الإدارات العامة والمؤسسات.
كان يمكن لهذا الطعن ولحرص رئيس الجمهورية وفريقه الحزبي والسياسي على الدستور أن يُطرح للنقاش، في وقت لا تتوجه أنظار الدول إلى العهد والحكومة لمراقبة أدائهما في كبح المحاصصات ومنع الفساد، بدل الاستمرار في سياسة عمرها سنوات طويلة باتت عنوان كل الخطب السياسية الخارجية، وعودة الاهتمام الإعلامي الدولي، في مقاربة الوضع الداخلي. وتكمن مفارقة احتكام العهد ورئاسة الجمهورية إلى الدستور، فقط في ملف التعيينات الذي يأخذ في كل عهد رئاسي طابع اقتسام القوى السياسية المواقع الحسّاسة، فكيف الحال في عهد عون وفي حكومة الرئيس سعد الحريري بسبب التقاسم بين القوى المسيحية، وفي حكومة الرئيس حسان دياب، بسبب سعي رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل إلى التفرد بأكبر حصة مسيحية في التعيينات، وخصوصاً في هذه المرحلة حيث هو خارج الحكومة.
وتكمن الإشكالية أيضاً في أن العهد يتعامل مع ملفات بهذه الحساسية، وكأنها منفصلة عن معاينة هذه الدول لأدائه وأداء الحكومة معاً في أدنى تفاصيلها، وخصوصاً مع طلب لبنان المساعدة بكل أشكالها. ما قاله لودريان علناً هو جزء مما بات يقوله الأوروبيون، بوضوح عن أداء السلطة اللبنانية والخلل في بنية الإدارة والأجهزة الرسمية. والمراقبة الدولية تتعلق بكل ما جرى ويجري منذ سنوات في كل القطاعات، ومع تشكيل حكومة دياب التي لم تعط بعد أي إشارة إيجابية عن أداء مختلف عن سابقاتها، لا بل دخل رئيس الحكومة نفسه في المحاصصة أسوة بأسلافه. وقد يكون مفيداً أن يجيب العهد اليوم عن سؤال: هل التعيينات اليوم وفق الدستور، في هذه المرحلة الخطرة، أهم من اليوميات البائسة التي يعيشها اللبنانيون، في العتمة الدائمة، وتوقف المولدات الكهربائية عن التغذية، وفقدان المازوت، وأزمة البنزين، والليرة المنهارة، والفقر والجوع وارتفاع نسبة السرقات والجرائم وحالات الانتحار؟ كل ذلك لم يدفع رئيس الجمهورية إلى التحرك (ما خلا حرصه على التدخل في أزمة الدجاج الفاسد!) واعتبار أن ممارسات مصرف لبنان وسرقة أموال المودعين وانقطاع الكهرباء قضايا تمس بالدستور، فيما فقد اللبنانيون كل مقوّمات عيشهم، بما في ذلك اهتمامهم بمراعاة شروط الوقاية في أزمة كورونا التي وضعتهم أمام اللامبالاة التامة والعشوائية في التصرف حيالها.
بين ما يريده لبنان من الدول الصديقة وما يمارسه في أدائه العام، انفصام تام. ما حصل في النقاش الداخلي حيال المفاوضات مع صندوق النقد عينة، كذلك ما يجري في تعامل السلطة مع حاكم مصرف لبنان وإعادة تعويمه. كل ذلك لم يكن دافعاً لرئيس الجمهورية لأن يتحرك. وحدها المحاصصة، تجعل من القوى السياسية على مختلف مستوياتها، ناشطة حتى آخر رمق، لتعزيز مكاسبها، ولو انهارت كل مقوّمات الدولة، تحت شعار الحفاظ على الدستور.