لم يعد الحديث عن انتصار حزب الله في «معركة الإرادات» مجرد تقدير، بل واقع انعكس في تقديرات ومواقف الخبراء والمعلقين في تل أبيب الذين يوجهون سهام انتقاداتهم لقيادتهم السياسية والعسكرية. فمنذ صدور بيان حزب الله (الإثنين الماضي) بالرد الحتمي على استشهاد المقاوم علي محسن في اعتداء على موقع قرب مطار دمشق الدولي قبل أسبوعين، دخلت تل أبيب مرحلة محاولة الحد من خسائرها، بعدما وجدت نفسها أمام مروحة سيناريوات تنطوي كلها على دفع ثمن ميداني وردعي، في ظل استبعاد احتمال امتناع حزب الله عن الرد.في هذا السياق، انتقل حزب الله الى موقع المبادر، وانكفأ كيان العدو الى موقع المترقب المنتظر للصفعة الآتية.
وارتقى حزب الله أيضاً الى وضعيّة الهجوم - الدفاعي، بهدف تعزيز مظلة الردع التي تحمي المقاومة ولبنان، فيما لم يُخفِ العدو تراجعه الى وضعية من يحاول تفويت الفرصة على اصطياد بعض جنوده وضباطه، بعدما سلم بعجزه وفشله عن ثني حزب الله وردعه عن الرد. كل ذلك ليس إلا ترجمة لالتزام القيادتين السياسية والأمنية في كيان العدو، بسقف معادلة الردع التي أسّسها حزب الله، ويعمل على الدوام من أجل تثبيتها بهدف منع العدو من التفلت من قيودها. ليس بعيداً عن هذا السياق، محاولة العدو أيضاً، عبر مختلف السبل المباشرة وغير المباشرة، ثني حزب الله عن الرد، من منطلق أن إسرائيل لم تتعمّد قتل أي من عناصره، كما تدّعي. لكنه كشف بذلك عن «ارتداع» يحكم أداء جيش العدو. وتجلى هذا المفهوم بأعلى صوره في تأكيد رئيس أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، أن إسرائيل امتنعت عن قتل مجموعة من عناصر حزب الله، تجنّباً لـ«يوم قتالي». ويعني ذلك أنه يقرّ بشكل مباشر أن أي استهداف دموي لن تنجح كل رسائل الردع في ثني حزب الله عن ردّ عليه يؤدي الى تدحرج قتالي. وهو منطق يخالف كلياً عقيدة الجيش التي تأسّس عليها، وصورة رئيس أركانه الجديد التي يتم الترويج لها على أنها متوثبة وهجومية. مع ذلك، بعد فشل مساعيها السابقة، تحاول قيادة العدو تعديل هذه الصورة عبر رفع مستوى التهديد، الذي تدرك تل أبيب أنه يستتبع ردوداً مضادة، ربما تؤدي تداعياتها الى تغيير المشهد الاقليمي.
هذا الواقع الذي قد يغفل عنه الكثير من اللبنانيين، في ظل ما يواجهونه من تحديات اقتصادية وصحية، يحضر بقوة في صدارة اهتمامات الرأي العام الاسرائيلي. وكعينة على تجليات هذا الحضور، لم يجد أحد أبرز المعلقين العسكريين في كيان العدو، ألون بن ديفيد، حرجاً في توصيفه بلغة تعكس شعوراً بالألم، إذ قال: «القوة العظمى في الشرق الأوسط، التي لديها تفوّق جوّي واستخباريّ وعسكريّ على كل جاراتها، وقفت هذا الأسبوع متشنّجة كلها أمام ميليشيا تهدد بتنفيذ هجومٍ ضدها... وبدت إسرائيل كمن يتوسل فقط ألا تطلق النار». مع الاشارة الى أن هذا التوصيف يتشارك معه فيه الكثير من الخبراء والمعلقين الاسرائيليين الذين وجّهوا سهام الانتقاد لقيادتهم على حالة التردي التي انحدرت اليها دولتهم.
ما يثير حنق شريحة واسعة من الإعلاميين والخبراء والقادة العسكريين السابقين في كيان العدو، أن حزب الله نجح في تعزيز معادلة الردع حتى قبل أن يرد عسكرياً. وما يفاقم التحدي بالنسبة إليهم جميعاً، كما عبّر بن ديفيد، أنه لوهلة «يمكن الخلط والاعتقاد أنه مِن بين الطرفين، ليس حزب الله هو الموجود في بلد يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية»، ولا كأنه (حزب الله) يواجه تحديات داخلية غير مسبوقة في تاريخ لبنان على المستويين الاقتصادي والمالي، إضافة الى تحدي «ميزانية مقلصة، متظاهرين في بيروت غاضبون في الشوارع، فضلاً عما تواجهه إيران من ضغوط اقتصادية قاسية»... ومع ذلك، يتابع بن ديفيد، فإن «الجيش الاسرائيلي يقف كله متوتراً ومتأهباً لصدّ عملية سيشنّها حزب الله على الحدود الشمالية». ولم يُخفِ المعلّق الاسرائيلي الرسالة الأهم التي ينطوي عليها هذا المشهد في «معركة الإرادات»، إذ قال: «انتصر (حزب الله) في حرب الأعصاب».
ما ينبغي التصويب عليه واستحضاره، أن هذا الواقع تبلور في خطاب المعلقين والخبراء الاسرائيليين بعد بيان حزب الله، الذي بدَّد رهانات كانت تراود مؤسسة التقدير والقرار في تل أبيب، وحَسَمَ اتجاه الأحداث على خلاف ما خطط وحاول أن يدفع إليه قادة العدو، بأن تمر جريمة قتل أحد عناصر الحزب في سوريا من دون عقاب. وأسّس لسياق تتبلور معالمه في الكباش بين رسائل حزب الله التي حضرت بقوة على طاولة القرار في تل أبيب، في مقابل محاولة العدو احتواءها عبر إحداث قدر من التوازن على مستوى الصورة، عبر إطلاق رسائل تهديد يدرك الرأي العام أنها أبعد ما تكون عن إمكان التحقق على أرض الواقع.
حزب الله ينشر مقاتليه بحثاً عن جنود العدو، فيما يلتزم هؤلاء الاختباء


ساحة أخرى من ساحات تجليات الانتصار في معركة الإرادات، كشف عنها المعلق العسكري في القناة الـ(13) في التلفزيون الاسرائيلي، أور هيلر، الذي لفت الى أن التقدير في جيش العدو هو أنه «كلما مرّ الوقت يتضح أن (الأمين العام لحزب الله السيد حسن) نصر الله لن يتنازل عن المعادلة التي يسعى الى إنتاجها»، والأصح تثبيتها. وفي هذا السياق ليس تفصيلاً، يتابع هيلر، «أنهم في الجيش يفحصون عما إذا كان الحادث الذي وقع يوم الثلاثاء الماضي (راجع «الأخبار»، الأربعاء 29 تموز 2020)، في مستوطنة شتولا في القطاع الغربي، هو عملياً محاولة استدراج من قبل حزب الله» لجنود العدو. بصرف النظر عن حقيقة ما جرى، لأن المقاومة لا تعلن عادة عن تكتيكاتها، لكن قادة جيش العدو يتخوّفون من أن يكون عناصر حزب الله حرّكوا السياج من أجل إطلاق الإشارات ودفع الجنود إلى الحضور ومن ثمّ استهدافهم.
يتجاوز اهتمام جيش العدو بهذه الحادثة الجانب التقليدي الذي يفرض عليه التحقيق في كل محطة مشابهة، الى كونها تؤشر - وغيرها من المحطات المماثلة - الى أكثر من رسالة وبُعد. فهي تمثّل، لو صحّت هذه الفرضية، تجسيداً لمحاولة تنفيذ ما تعهّد به حزب الله في بيانه، وتؤشر الى أن ساحة الرد لن تكون مقتصرة على مزارع شبعا، بل ستشمل أيضاً كل الحدود اللبنانية - الفلسطينية. يأتي ذلك امتداداً لما سبق أن أسّس له حزب الله من خلال عملية «أفيفيم» في أيلول الماضي، التي أرست قواعد جديدة بأن ساحة الرد تشمل أيضاً كل الخط الأزرق على الحدود. ومن الواضح أن أصل طرح هذه الفرضية للفحص في جيش العدو، يكشف عن أنهم لا يستبعدون أن الرد يمكن أن يتم في أي نقطة على الحدود مع فلسطين المحتلة. وينطوي تسريب الفحص أيضاً على جانب من تعليمات قيادة جيش العدو للجنود والضباط بشأن ضرورة الحذر من أي محاولة استدراج يقوم بها حزب الله كي يصبحوا على مهداف مقاوميه.
في الخلاصة، الوضع على الحدود هو أن حزب الله ينشر مقاتليه بحثاً عن جنود جيش العدو، فيما يلتزم هؤلاء تكتيك الاختباء والابتعاد عن مرمى استهدافه. وبخصوص المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة، فقد كشفت قنوات التلفزة الاسرائيلية عن أنه بعد 14 عاماً من خطاب «ما بعد بعد حيفا» خلال حرب عام 2006، عاد أسم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يتردّد صداه في كل منزل في شمال فلسطين المحتلة.