تزاحمت، أخيراً، محاضر الضبط بحقّ «منتهكي» سلامة الغذاء. فلا يكاد يوم يمرّ من دون تسجيل إحدى الوزارات «إنجازاً» يتعلق بضبط مواد غذائية فاسدة، من جولات وزير الصحة حمد حسن الى صولات وزير الزراعة عباس مرتضى، وما بينهما بطولات وزارة الاقتصاد. وفي كل مرّة، تُصوّر المضبوطات باعتبارها إنجازاً يضاف إلى اللائحة التي يعمل عليها كلّ في وزارته.مع ذلك، لم تخرج تلك المآثر بنتائج تُذكر. بقيت مجرّد «قنابل صوتية». والدليل؟ أن أياً من الفاسدين - عن سابق تصوّر وتصميم - لم ينل العقوبة الواجبة لارتكابه جريمة بحجم إطعام الناس لحوماً فاسدة منذ أربع سنوات. والأغرب أنه في «الفورة» الأخيرة التي كان عنوانها «السلامة الغذائية»، كانت أربع وزارات، من الصحة إلى الزراعة والاقتصاد والداخلية، تصوّر إنجازاتها وكأنها «شأن خاص». ولم يكن ثمة ما يؤشر إلى أنها شأن عام «يستوجب التنسيق بين الجميع»، على ما يقول رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو.
تعيد هذه «الفورة» التذكير بقضية الغذاء الذي تضيع سلامته بين 8 وزارات، هي الصحة والداخلية (عبر البلديات) والاقتصاد والسياحة والصناعة والبيئة والزراعة والمال (من خلال إدارة الجمارك)، إذ تمارس كلّ من هذه «السلطات» معارك غير معلنة لحماية صلاحياتها. ووسط كل هذا الضجيج، يضيّق هؤلاء الخناق على قانون «سلامة الغذاء» الصادر قبل خمس سنوات، من خلال تعطيل استكمال تشكيل «الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء» التي ورد ذكرها في المادة 22 منه، مع امتناع مجلس الوزراء عن إصدار المراسيم التطبيقية التي تسهّل عملها. ويقع على عاتق هذه الهيئة مراقبة سلامة الغذاء من ألفه إلى يائه (المادة 29)، وهذا ما يجعلها - بحسب القانون - صاحبة الصلاحيات الأوسع، أو بتعبير أكثر دقة الـ»chef d’orchestre» الذي يعمل على تنظيم العمل والرقابة بين الجهات المعنية بدءاً «من المزرعة وصولاً إلى الطاولة»، على ما يقول المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر.
ولئن كان تطبيق المادة القانونية لا يعني «سحب» الصلاحيات من الوزارات المعنية وإنما يضبطها، وخصوصاً أن الكل معنيّ بحماية الغذاء، إلا أن السلطة، «تجاراً وسياسيين تجاراً»، بحسب برو، «ليس من مصلحتها أن تقوم الهيئة». ويردّ هذه العرقلة إلى سببين أساسيين، أولهما هو صلاحيات الهيئة التي «تعني حكماً سحب صلاحيات معينة من كل وزارة»، ما يعني أن «حصة كل وزارة ستتراجع، أضف إلى ذلك أن البعض ليس مستعداً لتسليم رأس التاجر الى جهة واحدة». وهذا سببه «المحاصصة السياسية في كل وزارة، إذ أن لكل سياسي تجّاره الذين يحميهم... من حصته في إحدى الوزارات». يختصر برو السبب الأول بثلاث كلمات تعطّل تشكيل الهيئة: «الامتيازات والمحاصصة والانتفاع».
أصدرت الحكومة مرسوماً بتحديد تعويضات رئيس هيئة سلامة الغذاء من دون استحداث الهيئة نفسها!


أما السبب الثاني فهو أزمة الغذاء الفاسد بحدّ ذاته، إذ أن جزءاً كبيراً من المأكولات، يقدّره برو بنحو 30% منها، «يفسد مع الوقت ويعاد تدويره». وبما أن هذه النسب هي «خسارات»، في عرف التجار ومنهم سياسيون تجار، «من الطبيعي أن تطبيق القانون سيمنع كل هذه التصرفات». من هنا، فإن موقف هؤلاء ضد الهيئة « تاريخي»، ومن يعرقلون قيامها اليوم «هم أنفسهم من عرقلوا القانون قبل 15 عاماً: التجار والسياسيون التجار». ولذلك، لا يبدو أن الأمور ستحلّ قريباً. وهو ما لمح إليه أبو حيدر معتبراً أن «الخلاف السياسي يمنع التشكيل».
15 عاماً مرّت على اقتراح قانون «سلامة الغذاء» قبل أن يصبح قانوناً في تشرين الأول 2015. واليوم تمرّ خمس سنوات إضافية على تعطيل الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء، وهو ما دفع النائب ميشال موسى أخيراً الى سؤال الحكومة عن سبب التأخير في إصدار المراسيم التطبيقية؟ وعن الأسباب التي تحول دون إقرار الآلية التي تحدّد الشروط الصحية وعمليات المراقبة لتتبع سلسلة الغذاء؟ والأرجح أن السؤال سيضاف إلى قائمة الأسئلة المطروحة على الحكومة والتي بقيت بلا أجوبة. لكن، يبقى هناك استفسار يجب على الحكومة أن تجيب عليه: لماذا أصدرت مرسوماً يقضي بتحديد تعويضات رئيس مجلس إدارة الهيئة من دون استحداث الهيئة نفسها؟!