ثمة أمر إيجابي كشفته الردود والتعليقات على إعلان الرئيس نبيه بري التوصل لاتفاق إطار بشأن التفاوض على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية والسعي إلى حل مسألة النقاط «المتحفَّظ عليها» على طول الخط الأزرق. فقد تبيّن أن رافضي وجود الكيان الإسرائيلي، بين المعادين لحركات المقاومة المسلحة، هم أكثر مما كنا نعتقد. ثمة أفراد يوصفون بالناشطين على وسائل ما يُسمى «التواصل الاجتماعي»، لا يُظهرون العداء لأحد، شخصاً كان او جهة سياسية أو دولة، بقدر إظهارهم العداء لفصائل المقاومة المسلحة، سواء كانت في لبنان أو في فلسطين او في العراق، او في أي مكان آخر على الكوكب. هؤلاء لم يتركوا دعاية موجّهة ضد حركات المقاومة إلا وتبنّوها وعملوا على ترويجها. ليس الحديث هنا عن أفراد ومجموعات تخاصم قوى المقاومة، سياسياً، وهذا حقهم بطبيعة الحال، ولا عن أفراد يعارضون أصلاً أي عمل عسكري مقاوم ضد العدو (وهذا حقهم أيضاً). ولا هو عن أفراد ومجموعات وقوى احزاب لها موقفها الجذري من وجود «إسرائيل»، وانبروا للهجوم على قرار التفاوض غير المباشر مع العدو لترسيم الحدود البحرية. هذه الفئة الأخيرة تجاهلت أن لبنان رسّم الخط الأزرق عام 2000، بتفاوض غير مباشر مع العدو. وتجاهلت أن لبنان يخوض مفاوضات غير مباشرة، باجتماعات دورية (شبه شهرية، منذ عام 2007، بلا انقطاع) يشارك فيها ضباط من الجيش اللبناني ومن قوات الطوارئ الدولية ومن جيش الاحتلال، وانتفضت اليوم فور علمها بالاتفاق على إطار التفاوض، رغم أن هذا التفاوض بدأ منذ 10 سنوات بصورة متقطعة، مع الأميركيين، وهو متواصل منذ عام 2017، بلا انقطاع أيضاً. وشهدت المفاوضات منعطفات حرجة، حاول فيها الأميركيون فرض حلول على حساب لبنان، كاعتماد خط هوف حدوداً بحرية، ولو مؤقتة، بين لبنان وفلسطين المحتلة. وحينذاك، رفضت «قوى السلطة» العرض الأميركي، كما رفضت قبله وبعده عرض التنقيب الأميركي عن النفط والغاز في المنطقة البحرية «المتنازع عليها» ثم إيجاد صيغة لاحقة لتقاسم عائدات استخراج الوقود. ورفضت أيضاً الاقتراح الأميركي الرسمي بوجوب دخول لبنان في «منتدى شرق المتوسط للغاز»، الذي أنشئ العام الماضي كتجمّع إسرائيلي - مصري - أردني - يوناني - قبرصي - إيطالي (بمشاركة السلطة الفلسطينية)، قبل ان يتحوّل، الشهر الفائت، إلى منظمة دولية حكومية، لكن بغياب السلطة الفلسطينية هذه المرة. تلك الفئة تجاهلت أيضاً ان كل ما جرى، على مدى عشر سنوات، كان علنياً، وتناولته وسائل الإعلام المختلفة، كما صرّح بشأنه مسؤولون لبنانيون.
المقصود بالحديث عن الإيجابية ليس مَن سبق ذكرهم. فهؤلاء موقفهم المعادي لـ«إسرائيل» معروف وواضح. مشكلة غالبيتهم هي في أنهم يتعاملون مع السياسة بصفتها «ترند» على الـ«سوشل ميديا»، لا تعبيرا عن مصالح وموازين قوى شعبية واقتصادية ومالية وعسكرية، وعلاقات محلية وإقليمية ودولية. عالمهم السياسي هو هناك، في الهاشتاغ والبوست والتويت. ويتعاملون مع السياسة بصفتها عملية حصد لـ«اللايكات» والمشاهدات. ورغم عراقة بعض القوى السياسية، فإنها صارت أيضاً قوى سياسية «ترندية». هي قديمة حتى كسا الغبار وجوهها، لكنها في الوقت عينه ما بعد حداثوية، لجهة أنها قوى وجماعات افتراضية، بمعنى أنها تنتمي إلى عصر الذكاء الاصطناعي.
هذه المشكلة تتشاركها القوى الآنف ذكرها مع «الناشطين» المقصودين بالإيجابية في موقفهم من مفاوضات الترسيم. هؤلاء الناشطون الذين تبرّعوا لخدمة الدعاية المعادية للمقاومة، فكرةً وقوى، ويدافعون عن التطبيع بذريعة حرية الرأي، وعن المطبعين - أفراداً ومؤسسات ودولاً - ورعاتهم، فجّر فيهم إعلان برّي موجة من العداء لوجود إسرائيل لم تظهر سابقاً. أو أنها كانت موجودة، لكن التركيز على العداء للمقاومة، فكرةً وقوى مسلّحة، جعل ذلك العداء الوجودي لإسرائيل يضمر، او يتراجع قليلاً إلى ما وراء العداء الوجودي لحركات المقاومة. صحيح ان موقفهم المستجد إنما يعبّر أيضاً عن نية تشويه المقاومة، واتهامها بالتطبيع مع العدو لأنها لم تمنع الدولة اللبنانية من مفاوضة العدو، بصورة غير مباشرة، لتثبيت لبنانية المنطقة الاقتصادية البحرية والأراضي التي لا يزال العدو يحتلها على طول الخط الأزرق... صحيح ذلك، إلا أن هذا الموقف فيه الكثير من الإيجابية. على المستوى الفردي، وكمعارض لأي تفاوض مع العدو، مباشرة او غير مباشر، وخاصة متى كان بوساطة العدو الأميركي، أجد نفسي مزهواً باتساع فسطاط المتمسكين بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وبإعادة المسألة اليهودية مسألةً أوروبية، تماماً كما كانت في مطلع القرن الماضي. ثمة الكثير من الإيجابية في مواقف المزايدين. لم يبق إلا ان يؤسس أحدهم حركة مسلّحة جديدة، تكسر احتكار قوى المقاومة المسلّحة للمقاومة.
هلمّوا إلى السلاح يا رفاق. القدس تناديكم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا