في 29 تشرين الأول من العام الماضي قدّم الرئيس سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة، تحت وطأة التظاهرات الشعبية الاحتجاجية. حينها قال إنه استمع إلى صوت الناس ويريد إحداث صدمة كبيرة لمواجهة الأزمة، واصفاً اللحظة بأنها تاريخية، ومغلّباً معالجة الانهيار الاقتصادي على أي شي آخر.في الذكرى الأولى للتظاهرات التي رفعت شعار المحاسبة ومكافحة الفساد، وبعد شهرين من انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة مئتي شخص وأصاب أكثر من ستة آلاف ودمّر مئات المنازل والأحياء، بسبب الإهمال والفساد، وفي خضمّ انهيار اقتصادي غير مسبوق وإجراءات مصرفية قمعية تزداد حدتها يوماً بعد آخر، يقف الحريري أمام اللبنانيين، وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنه لم يكن رئيساً للحكومة التي ساهمت سياساتها بالانهيار المالي والاقتصادي، وأسقطته الاحتجاجات الشعبية، وليس سليل برنامج اقتصادي منذ التسعينيات أثبت فشله من خلال إنجازات وهمية. يقدم رئيس الحكومة السابق نفسه منقذاً لمعالجة الانهيار من دون الأخذ في الاعتبار العوامل التي ساهمت خلال عام كامل، بإفقار اللبنانيين وتجويعهم وتضييق الحصار عليهم. ويتصرف على قاعدة أنه خارج الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية التي لا تزال تمعن في اختراع أساليب إذلال اللبنانيين في صحتهم وتعليمهم واستشفائهم. لكن هل الحريري وحده من يتحمّل مسؤولية عودته الفجّة إلى السلطة بعدما أسقطه الشارع، وهل عوامل الإفادة المالية والاقتصادية وحدها التي تجعله حريصاً على العودة مجدداً إلى السرايا الحكومية؟
منذ المبادرة الفرنسية، وتكليف مصطفى أديب تشكيل الحكومة وإجراء المشاورات وفشلها، كان واضحاً أن ثنائية حزب الله وحركة أمل، كانت وستبقى موجودة في السلطة، فلا يلتبس على أحد إخراجها منها، مهما كان شكل الحكومة، وهوية ممثلي الثنائية. ما لم يكن محسوماً هو وجود القوى السياسية الأخرى، التي غرفت من السلطة لأعوام طويلة، أقدمها تيار المستقبل وارث الحريري في السلطة والإدارة، والحزب التقدمي الاشتراكي، وأحدثها التيار الوطني الحر بعدما تمكّن من خلق أدوات إدارية في مراكز متنوعة خلال خمسة عشر عاماً. في المقابل، يتصرف حزبا القوات اللبنانية والكتائب على قاعدة تحصين موقعيهما خارج التركيبة الحكومية، وبعيداً عن الشبهات نظراً إلى عدم وجودهما وتورّطهما في الدولة، بعد الطائف، كتركيبة إدارية، فلا يكفّان عن رفع صوتهما تنديداً.
وإذا كان حزب الله يفكر إقليمياً ويتصرف استراتيجياً، وفق مواعيد إقليمية ودولية، فإن القوى السياسية الأخرى تحاول القفز فوق المعطيات الإقليمية، لتحصين مواقعها الداخلية وحماية رؤوسها، محاولة تحسين شروطها التفاوضية الداخلية في لعبة تقاسم المصالح. صحيح أن شبح التهديد بالشارع يبدو معدوماً، بعد تجربة العام الماضي، لكن ما يطرحه صندوق النقد الدولي وخلفه عواصم تملك خزنة التمويل، سواء في ما يتعلق بالدعم المباشر أم عبر مؤتمر سيدر، ومن ثم المبادرة الفرنسية بتفاصيلها المباشرة غير الحكومية، يتعلق بأسس مكافحة الفساد والمحاسبة والشفافية وتقديم المرتكبين إلى القضاء وتفعيل القوانين الخاصة لمنع التجاوزات. وهنا بيت القصيد، لأن التذكير بهذا الأمر وبالرقابة المحلية والدولية، يتم في صورة دورية ومن دون أي التباس.
سلامة يبتزّ السياسيين تارة باللعب بسعر الليرة وتارة بإجراءات مصرفية، وبالتهديد برفع الدعم

وتلبية هذه المطالب انسجاماً مع الضغط الدولي لإجراء تحقيقات مالية وإدارية شفافة، يعني حكماً أن هذه القوى السياسية ستكون تحت المعاينة القضائية والمحاسبة وكشف ملفاتها. فأيّ حكومة ستتابع ما يطلبه المجتمع الدولي من إصلاحات، تصبح معنيّة مباشرة في وضع المرتكبين أمام أجهزة القضاء والمحاسبة، أي التركيبة الموجودة في الإدارة السياسية والمالية منذ سنوات. وهذا يفسر جزءاً من الانقلاب السياسي الذي يقوم به الحريري تحت ستار الإنقاذ من الانهيار، وبصرف النظر عن الإطار السياسي الذي قدّم نفسه به من خارج الآليات الدستورية، إذ أنه يعكس في مكان ما، حرصه والقوى السياسية الشريكة علناً وضمناً، على الوجود ضمن حكومة بأي ثمن، ليس من باب الرغبة في تقديم مصالح الناس وتلبية مطالبهم الحياتية، بل للإحاطة بالسلطة من الداخل والخارج، ورفع مستوى الوعود بالإصلاح المالي والاقتصادي المشروط بوقف التعقّبات. فاذا كانت المعطيات الإقليمية والدولية تجاه عودته لم تتبدّل، ولم تنجح بعد المعادلات الداخلية في ترتيب مصالحات سياسية، يُسجل في المقابل تفاهم ضمني على هذا النوع من الحكومات. ويعزز هذا التوجه، أن كل فريق سياسي يقيم منذ سنوات جزيرته الخاصة في الإدارة، والحكومة الموعودة هي وحدها كفيلة بمواجهة أي أجندة خارجية تفرض إيقاعاً مختلفاً، ولا سيما إذا تقرّرت المساعدات للبنان في عدد من القطاعات الحيوية التي تكون في دول العالم الثالث أكثر عرضة للفساد. وما يقوم به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في ما يتعلق بالتدقيق الجنائي، والتحايل عليه، وابتزاز السياسيين تارة باللعب بسعر الليرة وتارة بإجراءات مصرفية، وبالتهديد برفع الدعم، خشية المحاسبة، نموذج من أساليب تتقاطع حولها الطبقة السياسية والمصرفية لتفادي أي ملاحقات. وكلّ على طريقته، واحد من خلال تعاميمه وآخر من خلال حكومة تعطي الحصانة له ولشركائه. كل ذلك، من دون أي خجل، بل بالتذرّع بالمبادرة الفرنسية، والأسوأ زعم الاهتمام بحاجات الناس.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا