كما لو أنّ «17 تشرين» أزالت النقاب عن «طرابلس» جديدة. «تراند الثورة» كانت في زيارتها والتقاط الصور في ساحتها وتناول «كعكتها»... لا يكتمل «السجلّ الثوري» من دونها. من علّب عاصمة الشمال في قالب من الأحكام السلبية المُسبقة، وتعامل معها مُطوّلاً ككيانٍ مُنفصل عن البلد، واعتبر أنّ الأحداث الأمنية فيها تعكس «هوية» مساحتها وأهلها، قرّر أنّها هذه المرّة «العروس» التي اكتشفها قسمٌ كبير من اللبنانيين. «طرابلس كانت في الأسبوع الأول غضب الثورة، وليس عروسها»، يُصوّب مسؤول قطاع الشباب والطلّاب في الحزب الشيوعي اللبناني في الشمال، جهاد جنيد. كان لكلّ مجموعة مصالحها في كيفية تظهير حراك طرابلس والاستفادة منه. والتجوّل بين أحيائها كان يعني التعرّف إلى «موزاييك» لا يُشبه قرى أخرى (طرابلس قرية كبيرة، تُسمّى مدينة). نزل إلى الشارع شبّان من الأحياء المُسماة «شعبية». التقوا مع أبناء الطبقات الوُسطى، الذين كانوا قد شهروا طلاقهم السياسي والاجتماعي مع مدينتهم، فأعادوا وصل ما انقطع. لم يكن وضوح الموقف والشعارات قاسماً مُشتركاً، فالبعض شارك فقط «للترفيه». مُمثلو بعض الأحزاب، كالقوات اللبنانية، أخرجوا عتادهم بسرعة، فظهر على شكل توزيع مياه! أما «عيون» الأجهزة الأمنية والعسكرية، فمكانها دائماً محجوز. رغم تعدّد مُكوّنات صورة الانتفاضة في «الفيحاء»، لا يُمكن القفز فوق «النبض» غير المألوف الذي ظهر في شوارع المدينة، ولا سيّما في الأيام الأولى. قد يكون شتم زعيم، وطرده من الساحة، والتظاهر أمام منزله واتهامه بالسرقة وتجويع المدينة، وحرق مصارف، أموراً «مُتوقعة» من «ثورة»، ولكن يُمكن القول إنّه في طرابلس حيث لـ«مال الزعيم» قوّة وتأثير كبيران، كُسرت «مُحرّمات»... هذه من الأمور الإيجابية التي يذكرها جهاد جُنيد في حديثه عن التجربة التي «حرّكت الطبقات المُتضررة بشكل متقدّم وبعيد عن الطبقة السياسية». هل حصل فعلاً هذا الانشقاق؟ «نعم إلى أن وصلنا إلى بداية الأسبوع الذي تلا 17 تشرين فبدأت عملية التنفيس، عبر فرض إيتيكيت لكيفية التعبير وتحديد ما هو المسموح والممنوع، وبدأت تتحرّك المجموعات المُوجهة». مُشكلة طرابلس، بحسب جُنيد، أنّها «عكس المناطق الأخرى، غير مُسيطر عليها من قبل أحزاب السلطة مباشرةً، بل عبر الأجهزة الأمنية. الانتفاضة لم تكن مُسيّسة، بل شكّلت بدايتها صدمة للنظام وأجهزته، إلى أن تمكّنت من فهم التحركات في الشارع وقبضت على مفاتيحه». النقد الذاتي حاضر في حديث جُنيد، وهو يشمل كلّ المجموعات الناشطة، «فلم نعرف كيف نحمي الناس عبر توفير بديل لهم، ولم نُقدّم خطاباً سياسياً واضحاً. واليوم نُفكّر، هل فعلاً كنّا منطقيين برفع مطالب إسقاط حكومة وإجراء انتخابات؟ هل الثورة تُطالب أم تتصرّف بطريقة أخرى؟».
البداية كانت صدمة للنظام وأجهزته، إلى أن تمكّنت من القبض على الشارع

تقريباً، كلّ المجموعات والأحزاب والشخصيات التي نشطت منذ سنة أجرت هذا النقد، يحيى مولود واحد منها. يقول إنّه «لا يُمكن السؤال ماذا نتج عن 17 تشرين: أسقطنا حكومة، أجبرنا على تعيين وزراء على الأقل كفوئين. طرابلسياً، ثبّتنا مُلتقى يجمع المواطنين لنقاش قضايا مُختلفة ويجولون بين الأحياء، فيما كنا نفتقد في البلد لمنطق المساحات العامة. وهؤلاء لا أجندات مُخبَّأة لديهم، مثل «مُنتدى طرابلس» الذي تبيّن أنّه تابع لبهاء الحريري». المُرشح السابق إلى الانتخابات النيابية، كان من أوائل الذين نصبوا الخِيم في الساحة تحت اسم «طرابلس مش فرعية»، وآخر من أزالها. يتحدّث عن جوّ تغييري بدأ يُتلمّس في المدينة «منذ انتخابات 2018 الفرعية، وتعزّز قبل 4 أو 5 أشهر من 17 تشرين. لمسنا ذلك من خلال التعامل مع الناس، ولكن كان يبقى محدوداً باعتبار المواطن أنّ لديه مصلحة مع القيادات التي تؤمّن حاجاته الرئيسَة، ويرى نفسه وحيداً خارج دائرتها، فيسألنا: أنتم ستؤمنون لي الوظيفة والدخول إلى المستشفى والتعليم؟». لحظة انطلاق الغضب الشعبي، «لم تكن مفاجئة، بقدر ما أكّدت هذا التغيير في النفس العام وازدياد الوعي في خطاب الناس». يقول مولود إنّ هذه إيجابية يُمكن البناء عليها، ولكن السلبيات هي «أننا لم نُنجز التغيير الذي نطمح إليه. نحن في منتصف الطريق». أسباب ذلك يُفنّدها الأستاذ الجامعي سامر حجّار، وهو من مؤسّسي «مدرسة المُشاغبين» (رُفع الاسم على خيمة في ساحة النور، حيث نُظمت نقاشات وندوات، لا تزال مُستمرة عبر تقنية الإنترنت). يقول إنّه «لم نكن نملك خبرة ونضوجاً سياسييْن، غياب مفهوم العمل المشترك والتعاون، ولا يُمكن مقارنة حالة خُلقت في أشهر بأحزاب وسياسيين وأجهزة يملكون قدرات مالية وقوة تأثير».
التعقيدات الموجودة في طرابلس، تجعل العمل النضالي فيها أصعب من مناطق أخرى، ولكن «ما يُميزها أنّه أصبح لدينا تلامذة جامعات ومدارس شكّلوا روابط وبدأوا يخوضون النقاشات، إعادة تفعيل النقابات، فكرة النوادي داخل الأحياء وخلق مساحات لقاء... صارت لدينا موجة من المواطنين مُهتمة بالشأن العام». هل هذا يكفي؟ يُجيب حجّار أنّه «إذا لم تنشأ قيادة صلبة تقدر أن تواكب هموم العامة، على صعيد طرابلس ولبنان، لا نكون قد حقّقنا شيئاً. يجب تقديم حلول حقيقية، وطرح برنامج سياسي، والعملية تراكمية».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا