ما وصل الى دوائر ديبلوماسية أن المفاوضات الحكومية في لبنان، لا تزال تراوح مكانها، بمعنى أن كل ملف يبحث ويترك للاستكمال لاحقاً. وحده حزب الله حدّد ما يريده من وزارة المالية، لكنه حتى الآن لم يبلغ المعنيين ما يريده كاملاً.لكن ما رشح حتى الآن، بدأ يرسم تساؤلات حول توزع الحقائب وعدد الوزراء، ولا سيما أن هناك أخطاءً جسيمة ترتكب بتحديد عدد الوزرا، من دون الأخذ في الاعتبار قواعد التوزع الطائفي والمذهبي، داخل مجلس الوزراء، لأن أي تركيبة عددية يفترض أن تأخذ في حسابها من ضمن المناصفة تقسيم الحقائب وفق الخريطة المذهبية العددية لدى المسيحيين والمسلمين.
بالنسبة الى الوزارات، انتقلت مقاربة توزع الحقائب السيادية كما كانت تجري العادة الى تحقيق المداورة في الوزارات الاساسية وتقاسم وزارات الخدمات. هذا الأمر أعطي صبغة الإصلاح الحكومي من ضمن محاولات تقديم صورة جديدة للحكومة التقليدية الآتية مجدداً على قاعدة المحاصصة؛ فتطرح مثلاً أهم حقيبتي خدمات أساسية للتقدمي الاشتراكي، ولو مناصفة مع خصومه، في مرحلة تدهور اجتماعي وصحي، لتصبحا محور استقطاب أساسي للخدمات والمساعدات الخارجية، كما وكأنهما تغطية أو مكافأة لجنبلاط على انتظام دوره في إعادة تثبيت ركائز التسوية. كذلك يصبح تبادل الخارجية والداخلية بين التيار الوطني الحر والمستقبل مدعاة تساؤل عمّا يحققه الطرفان منها، في ضوء ما كان يطرح سابقاً حولهما.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم تخض أي قوة سياسية معركة الحصول على الداخلية؛ أولاً ربطاً بالاغتيال والتحقيق الدولي، وثانياً، بعهدتها الى رئيس الجمهورية ميشال سليمان بعد اتفاق الدوحة، الى أن عاد المستقبل الى التشبث بها، لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بالتركيبة الأمنية التي يعتبر أن له حصة فيها من خلال قوى الأمن، أو من خلال الإمساك بالمجالس المحلية والصندوق البلدي المستقل.
لم يكن العماد ميشال عون، قبل أن يصبح رئيساً، متحمّساً للحصول على الداخلية خلال المفاوضات الحكومية، منذ أن كبرت كتلته النيابية وأصبح طرفاً مشاغباً للحصول على حصته كاملة. كان مهتماً، كما النائب جبران باسيل، بوزارات الخدمات، كالاتصالات ومن ثم الطاقة، ليتدرج الاهتمام نحو وزارة الخارجية كنافذة يتواصل من خلالها باسيل مع دول الانتشار، ويطل منها مرشحاً رئاسياً على العالم. بالنسبة الى عون، كانت وزارة الدفاع مطلباً «عاطفياً» أهم من الداخلية، وليس استراتيجياً، رغم كل النصائح له بأن وزير الدفاع لا يمثّل ثقلاً إضافياً، نظراً الى نفوذ قيادة الجيش الأقوى والأكثر فاعلية. لاحقاً، بدأ باسيل يهتم بالداخلية، يسأل عنها وعن تفاصيلها، ويستكشف خصوصيتها، ويتعرف الى أهميتها الحيوية، لكن عينه بقيت على الديبلوماسية. اليوم، تُطرح حقيبة الداخلية من حصة التيار، في ظل مجموعة من التجاذبات حولها. فتجربة التيار في الدفاع لم تكن مشجعة، وقيادة الجيش ومديرية المخابرات لم تكونا طيّعتين في يد باسيل. ومما لا شك فيه أن حصول التيار على الداخلية، يمثّل انتصاراً سياسياً لباسيل بعد إخفاقات الأشهر الأخيرة، كما فرض الإصرار على وضع الحصة المسيحية في عهدة رئيس الجمهورية. وهذا الأمر سيُسهم في إعادة شدّ العصب العوني الخدماتي، المتعددة فصوله في هذه الوزارة. والانتصار أيضاً يكمن في أن يصبح التيار متحكماً في ذراعين أمنيَّين، بين وزارتي الدفاع والداخلية، فيما طُرحت في أوساط سياسية أسئلة عن الحكمة من إعطاء التيار هذا الموقع الأمني، ربطاً بمسؤولية الوزارة تجاه قوى الأمن الداخلي (تحديداً) والأمن العام. وتكريس الداخلية للتيار، يزيد من فرص الاستئثار بالنفوذ، في زمن الإعداد لقانون الانتخاب والانتخابات البلدية والنيابية، على اعتبار هذه الحكومة باقية إلى ذلك الحين. وهذا يعطي بعداً آخر لتولي التيار، كحزب العهد وكقوة حزبية، مسؤولية هذه الوزارة، إضافة الى دوائر ومصالح حساسة ومهمة، كالصندوق البلدي، وشؤون اللاجئين والجمعيات. والدخول الى هذه الوزارة يختلف تماماً عن الدخول الى وزارة الدفاع، لأنه سيكون دخولاً معزّزاً بالسعي إلى إظهار القوة بعد انكسار سياسي، ولأن الوزارة في حدّ ذاتها مرجعية مستقلة، بخلاف وزارة الدفاع.
وإذا كان لافتاً احتمال تخلي المستقبل عن هذه الوزارة، من ضمن تراجع الحريري عن سلسلة من الأولويات، يصبح السؤال في مكان آخر: هل توافق الثنائية الشيعية، وحزب الله تحديداً، على إعطاء التيار هذا النفوذ، رغم أن معارضي التيار يرون أن من مصلحة الحزب وجود حليف له في هذه الوزارة؟ وهل يقبل حزب الله وجود المستقبل في قصر بسترس، في وقت دقيق خارجياً؟ فإطلالة لبنان الخارجية ظلت تأخذ في الاعتبار موقع حزب الله ورؤيته الإقليمية والدولية. أي خطاب في قمة أو اجتماع عربي أو دولي، أو لجنة مصغّرة، يأخذ الحيّز الأكبر من الاهتمام، ربطاً بعبارة أو فاصلة. فكيف الحال اليوم، في ظل ترتيبات إقليمية ومرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية، أن يُمنح المستقبل الذي لم يتسلم هذه الحقيبة منذ عام 2005 (بل منذ التسعينيات)، تولّي رئاسة الحكومة وإطلالة لبنان الخارجية معاً. وهذه الإطلالة ستكون رهان الحريري الخارجي في الاستثمار الاقتصادي والسياسي عبر المؤتمرات الدولية واستعادة الحرارة العربية، وهي ربح صاف له، أسوة بالمكافآت الموزّعة على شكل حقائب على جميع القوى السياسية لإنجازاتها التي لا تعد ولا تحصى في ازدهار لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا