أحدٌ لم يكن ليعتقد بإمكان المسّ بامتياز ولو صغير من امتيازات شركة «سوليدير». تحولت الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت التي نشأت في عام 1994 تحت ذريعة إعادة بناء ما هدمته الحرب، إلى كابوس جرى التأقلم مع وجوده كأمر واقع ودائم. كان الغرض الرئيسي لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري من هذا المشروع هو جذب الرساميل، فانتهى الأمر بسرقة رساميل أصحاب العقارات في وسط بيروت والاستيلاء على الأملاك العمومية وردم البحر. كل ذلك حصل بمصادقة مجلسَي النواب والوزراء ومجلس الإنماء والإعمار.ثمة فيديو يعيد نشره بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي من حين لآخر، يظهر فيه شخص يدعى عمر عبدالله لبابيدي. يصرخ الأخير بحسرة: «شلحوني محلاتي الله لا يوفق لي أخدهم»، ليشير إلى أن سوليدير تسبّبت بتهجير 20 ألف عائلة بيروتية من بيروت ويسرد وعود الحريري الأب له أكثر من 20 مرة بإعادة عقاراته إليه من دون أن يصدق. لبابيدي هنا ليس سوى نموذج عمّا حلّ بصغار التجار الذين ينفخون الروح في المدينة، أي مدينة، قبل أن يصل إليها باطون رجال الأعمال، فيقتل روحها، ويستبدل دكاكينها ومراكز أعمالها الصغيرة والمتوسطة ببلوكات بشعة تستوطنها الماركات العالمية. ولضمان استمرارية الشركة المحظية والمتوسعة إلى خارج حدودها خلافاً للقانون، أصدر مجلس الوزراء في عام 2005 وقبيل 14 عاماً من انتهاء المدة المحددة للشركة، مرسوماً حمل الرقم 15909 قضى بتمديد عملها من 25 إلى 35 سنة، أي حتى عام 2029.
ذلك المرسوم دفع بصاحب فندق السان جورج فادي خوري، الذي اعتدت سوليدير مراراً على أملاكه وحاولت الاستيلاء عليها، خوض معركة قانونية ضدها بدأت في عام 2006 للطعن بقرار التمديد. لكن في عام 2016، صدر قرار عن مجلس شورى الدولة قضى برد مراجعة خوري والـ«سان جورج». أعاد خوري طلب المحاكمة، وكانت المفاجأة في تقرير المستشار المقرر في مجلس شورى الدولة، القاضية ريتا كرم، التي رأت وجوب «إبطال المرسوم رقم 15909 تاريخ 09/12/2005 المتضمن تعديل المادة الرابعة من النظام الأساسي لشركة سوليدير، على اعتبار أن هذا المرسوم غير قانوني، ووجوب التقيد بعمر الشركة الرئيسي الذي يفترض أن يكون انتهى في عام 2019».
تقرير القاضية كرم، عصيّ على التصديق، ولا سيما أن إنهاء احتلال شركة عقارية تمثل تقاطعاً للنخب السياسية وأصحاب رأس المال، يتطلب في أحسن الأحوال تبدلات سياسية لا تحصل سوى في الحروب. لكنه يجري اليوم سلماً، ويفتح كوة أمل تسمح باستعادة أموال عامة وخاصة منهوبة.
التقرير الصادر ليس حُكماً مبرماً، ولكنه مؤشر كبير إلى كيفية سير القضية. ومن النادر جداً، أن يأتي القرار النهائي مخالفاً لتقرير المستشار المقرِّر. أما المستدعي، فقد استند في طعنه بمرسوم التمديد إلى «انحراف الشركة في استعمال السلطة طالباً إبطال المرسوم بسبب اتخاذه لغاية غير الغاية التي من أجلها خوّل القانون السلطة المختصة حق اتخاذه ولأن الهدف من تعديل نظام الشركة الأساسي هو أداء خدمة خاصة إلى سوليدير وليس تأمين المصلحة العامة»، ولا سيما أن المدة الأساسية للشركة والبالغة 25 عاماً لم تكن قد انقضت بتاريخ صدور مرسوم التمديد، بل كان يتبقى منه 14 عاماً. في حين أن المشروع الذي أنشئت من أجله الشركة «لم يبق منه قيد التنفيذ سوى 10%».

انتفاء المنفعة العامّة
من جانبها، ردت المستدعى ضدها، أي «سوليدير»، بنفي هذه التهم طالبة تقديم الإثباتات المادية والقانونية على «انحرافها»، ومشيرة إلى أن التمديد جرى لضرورات واقعية وقانونية تتصل بعمل الشركة ومشاريعها. لكن القاضية كرم استندت إلى المادة 108 من نظام مجلس شورى الدولة الذي ينص على أنه يمكن للمجلس «إبطال الأعمال الإدارية المشوبة بعيب من العيوب إذا اتُّخذ لغاية غير الغاية التي من أجلها خول القانون السلطة المختصة حق اتخاذها». وللتأكد من مهام الشركة استرجعت موضوع الشركة المحدد «بإعادة ترتيب وضعية وإعمار منطقة أو أكثر من المناطق المتضررة في لبنان بسبب الأحداث الأمنية وفقاً لتصميم ونظام توجيهي مصدّق حسب الأصول مع حقها ببيع الأراضي المرتبة وإنشاء الأبنية عليها وبيعها أو تأجيرها أو استثمارها». كذلك أتيح لها ردم جزء من البحر تحت ذريعة «قرب المناطق المتضررة من البحر».
رأي المستشار المقرّر أوّلي لكنه مؤشر إلى طريقة سير القضية، علماً بأن تدخلات سياسية كبيرة ستعمل على تعديله

لكن وفقاً لما جاء في تقرير كرم، فإن «إعطاء المشترع الحق للشركة العقارية بالتصرف بالعقارات لا يمكن أن يتحول إلى موضوع أساسي للشركة وأن تعتبر أنه طالما استمرت أعمال البيع والتأجير والاستثمار فإن موضوعها لا يزال قائماً ولها الحق بتمديد مدتها. فالإقرار بذلك يعني استمرار عملها دون سقف زمني ولو صح ذلك لانتفت الحاجة إلى تحديد مدة الشركة في نظامها الأساسي». ورأت أن «الشركة العقارية هي وسيلة قانونية لتحقيق غاية أو منفعة عامة وهي إعمار وترتيب المناطق المتضررة، ولا يجوز بالتالي أن تتحول الوسيلة إلى غاية بحد ذاتها من خلال تعديد مهام الشركة والتمديد لها». وبما أنه يتبين أن الشركة سعت إلى «تمديد تلك المدة إلى 75 عاماً بدلاً من 25 وهو ما يدل على نية واضحة لدى إدارتها بإطالة مدة عملها بغض النظر عن مهامها الأساسية، وقد ظهر ذلك جلياً بإضافة مهام جديدة إلى نظام الشركة». ذلك من خلال مرسوم صادر في عام 2007 نص على الإتاحة لها «القيام بخدمات وأعمال استشارية وهندسية وتطويرية في كلّ المجالات العقارية بما فيها ترتيب المناطق والمدن وتطويرها داخل وخارج لبنان والقيام بالعمليات المالية المتعلقة بما ذُكر».
إضافةُ هذه المهام الخارجة كلياً عن مسألة إعادة إعمار بيروت، حصلت من دون إجازة من المشترع، وفق التقرير، وتشكل دليلاً على توجهات الشركة بتحقيق غاية أخرى عن تلك المحددة لها. علماً بأن المرسوم المطعون فيه، حصل قبل تعديل الشركة لمهامها، بناءً عليه «يكون المرسوم المطعون فيه مستوجباً للإبطال».
وقد حصل تقرير القاضية كرم على توقيع مفوّض الحكومة المعاون الذي ذيّله بتأييد النتيجة التي خلصت إليها المستشارة المقرّرة. ومن المفترض أن يمهد هذا التقرير الأولي لقرار نهائي ينتزع بالقانون حق مالكي العقارات والمواطنين بشكل عام، من براثن وحش عقاري احتل قلب المدينة بقوة القانون أيضاً. هو انتصار صغير بانتظار الانتصار الأكبر، رغم العلم المسبق أن هذا القرار سيفتح الباب واسعاً أمام الضغوط السياسية على القضاء بغية تعديله وتغييره، وإبقاء «سوليدير» جاثمة على قلب العاصمة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا