يقول البنك الدولي في نشرة «مرصد الاقتصاد اللبناني» إن «التعديل الجاري» في القطاع المالي يعتبر تنازلياً إلى حدّ بعيد لأنه يركّز على المودعين الأصغر، وعلى اليد العاملة المحلية، وعلى المؤسسات الأصغر حجماً. المقصود بـ«التعديل الجاري»، هو التصحيح الذي ينتج من الأزمة والسياسات التي اعتُمدت لمواجهتها. هذه السياسات كانت نقدية (يتفرّد مصرف لبنان برسم هذه السياسات وتنفيذها) وأدّت إلى النتيجة الآتية: «يُعتبر تحويل الودائع بالدولار الأميركي، إلى الليرة اللبنانية، والاقتطاع من الودائع بالدولار، أمراً واقعاً رغم الالتزام الرسمي من جانب المصارف التجارية ومصرف لبنان بحماية الودائع». أما الأعباء الناتجة عن هذه الإجراءات فكانت من نصيب «المودعين الصغار الذين يفتقرون إلى أي مصدر آخر للمدّخرات»، ووقعت هذه الأعباء أيضاً على عاتق «اليد العاملة المحلية التي تتقاضى أجورها بالليرة اللبنانية»، وكذلك على عاتق «المؤسسات الأصغر حجماً».
يمكن الحكومة أن تفرض ضريبة على الثروة (على الأصول المالية والحقيقية) كأداة لإعادة هيكلة القطاع المالي بشكل تقدّمي (هيثم الموسوي)

هكذا صدرت نشرة البنك الدولي الدورية بعنوان «الركود المتعمد». هو الركود الذي أنتجته سياسات مصرف لبنان النقدية التي نفذت على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية. ولم يكتف البنك الدولي بإلقاء اللوم على مصرف لبنان، بل خصّص ملحقاً كاملاً في النشرة الدورية، لتعداد وتحديد إجراءات مصرف لبنان منذ تشرين الأول الماضي. فقد تبيّن أن هناك 22 تعميماً، منها 10 تعاميم صنّفها البنك الدولي تحت عنوان السياسات النقدية وسعر الصرف، واثنان في إطار التنظيم المصرفي، والباقي في إطار الدعم الاقتصادي والاجتماعي (وخصوصاً بعد انفجار المرفأ).
كيف حصل هذا الأمر؟ الرواية التي يقدّمها البنك الدولي في نشرته الدورية، هي الرواية نفسها التي تردّدت مراراً وتكراراً على مدى الأشهر الماضية، وخصوصاً عن إفلاس سعر الصرف عمداً وتعدّد أسواقه، وإصدار النقود لتذويب الودائع، ونفخ التضخّم… لكن البنك الدولي يعيد تقديم هذه الرواية في إطار متخصص وتقني ومدعّم بالأدلة والبراهين.
رواية البنك الدولي تبدأ مع إقرار الحكومة خطّة للتعافي المالي. لاقت هذه الخطّة معارضة واسعة من مصرف لبنان والقطاع المصرفي، وقد استقال عدد من الأعضاء الأساسيين في الفريق الذي وضعها بعد خلاف على تحديد حجم الخسائر. وهذا الخلاف يعدّ حيوياً من أجل إعادة هيكلة الدين، نظراً إلى حجم الدين العام الكبير المحمول من مصرف لبنان والمصارف. هذه الأخيرة، كما يقول البنك الدولي، تدافع عن آليات للاستحواذ على الأصول العامة مثل «احتياطيات الذهب، والعقارات المملوكة من الدولة، من أجل تغطية الخسائر في ميزانياتها. هذا الأمر هو بمثابة عملية إنقاذ من الخارج (bailout)، وهو أمر يتعارض مع مبادئ إعادة الهيكلة التي تحمي دافعي الضرائب. تشمل هذه المبادئ حلول الإنقاذ الداخلي (bail in) بالاستناد إلى هرمية الدائنين، بدءاً بمساهمي المصارف. كما يمكن الحكومة أن تفرض ضريبة على الثروة (على الاصول المالية والحقيقية) كأداة لإعادة هيكلة القطاع المالي بشكل تقدّمي».
بكلام آخر، يعتقد البنك الدولي أن لبنان غارق في ركود شاق وطويل المدى، نظراً إلى النقص في السياسات المطلوبة. «فالضغوط التي تواجه سعر الصرف ستواصل خنق عمليات التبادل والتمويل التجاري وسط اقتصاد مدولَر بشكل مرتفع، وستمنع تدفق رؤوس الأموال والسلع، وستضرب سلاسل الإمداد بكاملها». ويشير إلى أنه في ظل غياب قانون للقيود على رؤوس الأموال («كابيتال كونترول»)، فإن الهوّة بين المصارف، وبينها وبين زبائنها من جهة والزبائن في المصرف الواحد أيضاً، ستزداد وستغذّي ردود الفعل العنيفة. «الدافع الاساسي لتطبيق قيود غير نظامية على حركة السحب والتحويل يعود إلى النقص في الشفافية والامتثال… فقد أتيح لعدد من الزبائن تحويل أموالهم إلى الخارج رغم وجود هذه القيود».
التضخّم هو ضريبة تنازلية (عكس تصاعدية) تصيب الفقراء والمهمشين وأصحاب المداخيل الثابتة مثل المتقاعدين


إذاً، ما هو السيناريو الذي ينتظر لبنان في ظل هذا الواقع؟
الإجابة التي يقدّمها البنك الدولي من دون تبنٍّ كامل لها، هي على شكل سيناريو يختصر السجال الحالي المتعلق بدعم السلع ومصير سعر الصرف واستعمال الودائع الاحتياطية بالدولار… فالمشكلة حالياً ليست في ذلك السجال غير المجدي حول خفض سقف الاحتياطيات بالعملات الأجنبية وكونها ودائع، بل هي تكمن في وجهة استعمال هذه الأموال. هذا الأمر الذي تطرّق إليه مراراً وتكراراً عدد من الاقتصاديين اللبنانيين، عن ضرورة معرفة حجم الأموال المتاحة للاستعمال لتحديد وجهتها في إدارة خطّة شاملة وعادلة للمعالجة، بات اليوم هو مطلب البنك الدولي. فالبنك يعتقد أن ذوبان الاحتياطيات بالعملات الاجنبية لدى مصرف لبنان بشكل ثابت ينطوي على مخاطر الدخول في دوامة الركود التضخمي. ما هي هذه الدوامة؟ «عندما يوقف مصرف لبنان دعم استيراد السلع الحيوية، وخصوصاً المحروقات، والأدوية، والسلع الغذائية الاساسية، فإن المستوردين سيبحثون عن الدولارات في السوق الموازية، ما يفاقم الضغوط التضخمية على مستويي الدفق والمخزون. أسعار السلع ستزداد، ما ينعكس مباشرة زيادة في الطلب على الدولار في السوق الموازية (السوق السوداء)، وهذا بدوره ينعكس على سعر الصرف، ما يغذّي التضخم أيضاً. وبذلك، سيزداد مخزون النقد المتداول، وسيضع مزيداً من الضغوط على سعر الصرف. كذلك ستنتقل الثروة من المودعين إلى الدائنين…». التعبير الأكثر دقّة لهذه الدوامة هو التضخم المفرط.
وسواء كان الأمر عبارة عن تضخّم مرتفع كالذي يحصل الآن بعد بلوغ التضخّم 120% في آب الماضي، أو تضخّم مفرط سيحصل لاحقاً، فإن المسبب هو واحد: سياسات مصرف لبنان النقدية. «فالسياسات النقدية تعكس الأزمة المالية والاقتصادية التي تتمحور حول ضغوطات سعر الصرف التي أطلقت تضخّماً من ثلاثة أرقام»، كما يقول البنك الدولي، لكنه يضيف تعريفاً عن التضخّم على النحو الآتي: التضخّم هو ضريبة تنازلية (عكس تصاعدية) تصيب الفقراء والمهمّشين وأصحاب المداخيل الثابتة مثل المتقاعدين.
في النتيجة، يتوقع البنك الدولي أن يزداد مستوى الفقر ليتجاوز عدد الفقراء نصف عدد سكان البلاد بحلول عام 2021. وسيؤثر الفقر على كل الفئات السكانية من خلال قنوات مختلفة، مثل فقدان العمالة الإنتاجية، والتراجع في القوّة الشرائية الفعلية، وتعليق الحوالات الدولية.

نهاية سعر الصرف الثابت: 3550 ليرة مقابل الدولار معدّل الـ 12 شهراً الماضية
انتهى نظام «سعر الصرف الثابت» ليحلّ محلّه «سعر الصرف المتعدّد». حتى الآن، هذه هي الحصيلة الحقيقية في السوق. بحسب البنك الدولي، فإن معدل الأشهر الاثني عشر الماضية بلغ 3550 ليرة مقابل الدولار. هذه النتيجة مستخرجة من فرضية مبنية على معادلة تقنية ــــ رياضية، بالاستناد إلى أوزان الاستهلاك وحجم تبادلات السلع والخدمات بالأسعار المختلفة.
حالياً، يعتقد البنك الدولي أن هناك ثلاثة أسعار لليرة مقابل الدولار:
ــــ سعر الصرف السابق الذي يشتهر بأنه السعر الرسمي عند متوسط 1507.5 ليرات وسطياً، وعلى أساسه هناك مجموعة من التبادلات التجارية التي تنفذ في السوق.
ــــ سعر صرف المنصّة التي خلقها مصرف لبنان لتسديد الودائع بالليرة واستيراد سلّة من السلع الغذائية.
ــــ السوق الموازية التي يصفها البنك الدولي بأنها «السوق السوداء».
هذه الحال من التعدّدية في أسعار الصرف استمرّت طوال الأشهر الاثني عشر الماضية، ما يثير سؤالاً أساسياً: ما هو المعدل الذي يجب اعتماده لقياس المؤشرات، في ظل غياب حادّ للإحصاءات والبيانات المتعلقة بحجم التبادلات النقدية بالعملات المختلفة؟
الإجابة التي يقدّمها البنك الدولي مختلفة عن تلك التي اعتمدها صندوق النقد الدولي. الأخير أصدر مؤشرات عن حجم الناتج المحلي تختلف جذرياً عن تلك التي أصدرها البنك الدولي أمس. الصندوق قدّر أن يتقلص الناتج المحلي إلى 18٫7% وأن يكون النمو السلبي 25%، ثم أظهرت طريقة الاحتساب أن سعر الصرف المحتسب يبلغ 6000 ليرة مقابل الدولار. في المقابل، يقدّر البنك الدولي أن يبلغ الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2020 نحو 32٫1 مليار دولار، وأن يكون النموّ سلبياً بنسبة 25% وأن يكون معدل سعر الصرف 3550 ليرة.
حسابات البنك الدولي لم تعتمد على مقارنة حجم الكتل النقدية في السوق وحجم العمليات التي تتم بالعملة المحلية والأجنبية، بل اعتمد طريقة ثانية مبنية على كون لبنان بلداً مستهلكاً بدرجة كبيرة، وبالتالي تحتسب أوزان الاستهلاك وسعر الصرف المعتمد لكل منها وحجم العمليات لكل منها. وقد عمد البنك إلى تجزئة أوزان السلع والخدمات التي استخدمت في هذه الحسابات على الشكل الآتي:
ــــ سلع مستوردة تمثّل 85% من مجمل استهلاك السلع، وتتوزع على ثلاثة أنواع: السلع الأساسية بالنسبة إلى المستهلك وهي مدعومة من مصرف لبنان على السعر الرسمي للدولار 1507.5 ليرات، فيدعم 85% منها، والسلع الأقل حيوية المدعومة على سعر صرف 3900 ليرة للدولار، والسلع العادية التي تحتسب على سعر صرف السوق الموازية.
ــــ سلع منتجة محلياً احتسبت على أساس سعر الصرف الرسمي (1507.5 ليرات للدولار). تقدّر قيمة هذه السلع من الاستهلاك العام للبضائع بنسبة 15%.
ــــ خدمات مستوردة تقدّر كلفتها بنسبة 40% من مجمل الإنفاق على الخدمات، وتحتسب على أساس سعر السوق الموازية.
ــــ خدمات محليّة للإنتاج تقدّر كلفتها بنسبة 60% من الإنفاق على الخدمات عامةً ومحتسبةً على سعر الصرف الرسمي.
بنتيجة المعادلة الرياضية، تبيّن أن معدل سعر الصرف يبلغ 3550 ليرة مقابل الدولار. لكن هناك فرضيتان ستحكمان هذا التطور للسنة المقبلة. ففي حال ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى 10٫000 ليرة قد يصبح معدل سعر الصرف 5303 ليرات في نهاية كانون الأول 2021، وإذا ارتفع سعر الصرف إلى 15٫000 ليرة مقابل الدولار في السوق الموازية، سيصبح معدل سعر الصرف 6465 في نهاية كانون الأول 2021.
يبقى التذكير أن هذه الأرقام عبارة عن فرضيات ومعادلات رياضية تتغير نتيجتها بتغيّر العناصر التي يتم إدخالها ضمن المعادلة أو الفرضية، ولا يمكن الجزم بأنها ستتحوّل إلى حقيقة أو أنها نتائج حتمية، بل هي عبارة عن تقديرات في إطار سيناريوات لقراءة أوضاع متباينة مستقبلاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا