مع الإعلان عن الاقتراب من التوصل إلى لقاح لفيروس «كورونا»، بدأ العالم يعدّ العدّة للعودة إلى مشاكله الأصلية الأكبر، وفي مقدمها تغيّر المناخ العالمي. أبرز مؤشرات الاهتمام كان إعلان الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أن تغير المناخ والعودة إلى اتفاقية باريس المناخية، سيكونان على رأس القضايا التي ستوليها إدارته اهتماماً كبيراً، ومسارعته الى تعيين وزير الخارجية السابق جون كيري مبعوثاً رئاسياً خاصاً لشؤون المناخ.لا تكمن أهمية ذلك في كونه مؤشراً إلى اهتمام عالمي مستجدّ بأكبر معضلة تواجه البشرية فحسب، بل بأنه، أيضاً، يمثّل مؤشراً إلى المسار المستقبلي لسياسات الطاقة في العالم. فمن المعلوم أن المحدّد الرئيس لسياسات المناخ العالمي ومصيره، هو سياسات الطاقة الداخلية التي تعتمدها الدول الكبرى. فكيف يمكن للرئيس الأميركي الجديد أن يلتزم بقضية تغيّر المناخ بعدما تحوّل بلده إلى أكبر منتج للنفط في العالم جراء الطفرة التي حقّقها سلفه في استخراج النفط الصخري؟
ليس متوقعاً حصول تغيّرات دراماتيكية في هذا الملف. كل ما في الأمر أن السلطة انتقلت من الأكثر فظاظة إلى الأكثر دبلوماسية، فيما السياسات الجوهرية والاستراتيجية ثابتة. فما من دبلوماسية في العالم تخرج من اتفاقية غير ملزمة، ولا هي على قدر الطموحات، ولا تؤثر بشكل كبير في السياسات الاقتصادية والطاقوية للدول. وقد كان في إمكان واشنطن إعلان الالتزام بالاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والمماطلة في المفاوضات الدبلوماسية، كما كان يحصل دائماً. لذلك، ما من تفسير للقرارات الفظّة بالانسحاب من الاتفاقيات إلا لأنها انعكاس لرئيس استثنائي في سلوكه… ولذلك، سرعان ما ستعود السياسات إلى طبيعتها الدبلوماسية، الكاذبة طبعاً. وهو مؤشر لا يوحي بأي إيجابية للالتزام بمحاربة جدية لقضية تغيّر المناخ.
كذلك، تجدر الإشارة إلى أن سياسات الطاقة ترتبط مباشرة بالصراعات السياسية وبالعقوبات على دول نفطية مؤثرة في الأسواق مثل فنزويلا وإيران. فهل يستمر الرئيس الجديد في نهج العقوبات ويتراجع عن إنتاج النفط الصخري في آن؟ وإذ تتحدد سياسات المناخ بأسعار مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، فهل تساهم سياسة العقوبات وخفض الإنتاج في بقاء السعر مرتفعاً بما يكفي لدعم الخطط المناخية الطموحة بإحلال التقنيات النظيفة محل الوقود الأحفوري؟ وكيف ستتأثر الدول المنتجة وغير المنتجة أو تلك التي لا تزال تنقب عن النفط والغاز؟ وكيف ستكون استراتيجياتها وخططها؟
مع أخذ هذه المعطيات وغيرها في الاعتبار، يمكن تقييم تعهد بايدن بخفض صافي الانبعاثات الأميركية إلى الصفر بحلول 2050، وخفض صافي انبعاثات قطاع الكهرباء إلى الصفر بحلول 2035! وإذا صدّقنا ذلك، كيف يمكن من دون غالبية ديمقراطية في الكونغرس، تأمين تكنولوجيا بديلة في سرعة قياسية للوفاء بهذه التعهدات القصيرة المدى نسبياً؟ خصوصاً أن إدارة ترامب كانت قد عملت على تخفيف المعايير المفروضة على انبعاثات السيارات، وألغت خطة الكهرباء النظيفة التي اعتمدها سلفه باراك أوباما (كانت تشترط خفضاً كبيراً للانبعاثات من صناعة الكهرباء). كما أن هذه الإدارة «دلّلت» شركات النفط والغاز التي لم تقم بأي جهد او استثمار للتحول إلى الطاقات البديلة، أسوة بالشركات الأوروبية التي وضعت مثل هذه الاستراتيجيات. وبالتالي، ما الذي يلزمها بالقيام بذلك، خصوصاً بعد تعهد بايدن - من أجل محاربة تغير المناخ - بحظر إصدار تراخيص حفر جديدة على الأراضي وفي المياه الاتحادية؟ وكيف سيتم تعويض الإيرادات العامة المحقّقة من إنتاج النفط والغاز والتي بلغت حوالى 12 مليار دولار في عام 2019؟
بحسب «فورين بوليسي»، تعهد بايدن باستثمار 1،7 تريليون دولار في مشاريع تهدف إلى إزالة الكربون من الاقتصاد الأميركي، وباستثمارات ضخمة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتحسين كفاءة قطاع الطاقة وزيادة اعتماد وسائل توليد الكهرباء النظيفة. ووعد بـ«ثورة ثانية» في قطاع السكك الحديد من خلال الاستثمار في القطارات السريعة وجعلها بديلاً للشاحنات في نقل البضائع. كما طالب بفرض حظر عالمي على دعم الوقود الأحفوري، وبدعم تصدير وسائل الطاقة النظيفة، ومبادرات الاستثمار في المناخ في جميع أنحاء العالم… إلا أنه وعد، أيضاً، بعدم السماح لدول مثل الصين بأن «تتحوّل إلى وجهة مفضلة بالنسبة إلى الشركات المضرّة بالبيئة». وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنه لن يبتعد كثيراً عما اعتمده سلفه. ولطالما قيل: لكي نعرف الاتجاهات الحقيقية للمحاربة الجدية لقضية تغير المناخ، علينا أن نعرف اتجاهات التعاون أو التنافس بين أميركا والصين، الاقتصادين الأكبر والأكثر تلويثاً في العالم.
في جلسة افتراضية للجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيلول الماضي، تعهّد الرئيس الصيني شي جين بينج بأن تحقق بلاده «الحياد الكربوني» قبل حلول عام 2060، على أن تبدأ في خفض انبعاثاتها من الغاز خلال السنوات العشر المقبلة. وبحسب باحثين في هذا الشأن، تراهن الصين على تقنيتين طالما كانتا محل نزاع وتشكيك في كفايتهما وكلفتهما وفي انعكاساتهما وهما تقنية حبس الكربون وتخزينه في باطن الأرض، وزيادة عمليات التشجير لامتصاص الغازات. بالإضافة طبعاً إلى الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة (العديمة الانبعاثات) لتوليد معظم حاجاتها من الكهرباء، والتوسّع في استخدام هذه الطاقة حيثما أمكن، كأن تحل السيارات الكهربية محل السيارات التقليدية. وبحسب تشانج زيليانج، خبير نمذجة المناخ في جامعة تسنجوا في بكين، كما نُشر في مجلة «نيتشر» الدورية، فإنَ وفاء الصين بهذا الهدف يستلزم زيادة إنتاج الكهرباء إلى أكثر من ضعف المعدلات الحالية، لتصل بحلول عام 2060 إلى 15,034 تيرا وات في الساعة، على أن يعتمد إنتاج النسبة الأكبر منها على مصادر نظيفة. وتتوقف هذه الزيادة على زيادة إنتاجية عمليات توليد الطاقة الكهربية من المصادر المتجددة بشكل ضخم خلال العقود الأربعة المقبلة، بحيث ترتفع إنتاجية توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية بمقدار 16 مرة، ومن طاقة الرياح بمقدار 9 مرات. ولتعويض الطاقة المولّدة من الفحم، يتعيّن على الصين زيادة حجم الطاقة النووية لديها بمقدار 6 مرات، فضلاً عن مضاعفة حجم الطاقة الكهرومائية! وهذا ما يبدو مستحيلاً، في ظل تراجع دول العالم عن بناء أي مفاعل نووي جديد بعد حادثة فوكوشيما عام 2011، علماً أن الطاقة التي تولّدها المحطات العاملة على الفحم تمثل حوالى 65% من إنتاج الصين من الكهرباء، وهناك أكثر من 200 محطة طاقة تعمل بالفحم قيد الإنشاء حالياً أو في المستقبل القريب. ناهيك بأن خيار التخلي عن أرخص وقود في العالم (الفحم) الذي يساعد في الإنتاج الرخيص والمنافس سيُقابل بمعارضة هائلة من الصناعات التي تعتمد على الوقود الأحفوري بالطبع. والتخلي عن الوقود الرخيص لا يمكن أن يحصل إلا إذا حدث تعديل جوهري في اتفاقيات التجارة العالمية والتراجع عن قواعد اقتصاد السوق… وهذا المطلب ليس من طموحات الولايات المتحدة ولا في برامج الجمهوريين أو الديمقراطيين بالطبع.
إذا كانت هذه حال البلدان المتقدمة والمؤثرة في السياسات العالمية وفي قضية تغير المناخ، فكيف يمكن للبلدان الصغيرة أن تضع استراتيجياتها وأولوياتها؟ ألا تصبح مطالب نقل التكنولوجيا النظيفة مجاناً أولوية على طلب المساعدات والاقتراض؟ ألا يصبح الصرف على استراتيجيات للتكيف مع تغير المناخ أولوية، ولا سيما في البلدان الصغيرة مثل لبنان الذي يتوقع أن تزداد حرارة أرضه وأن يشهد مظاهر مناخية متطرفة قد تتسبب بفيضانات أو بجفاف؟ وكيف ستكون استراتيجيات وسياسات الطاقة والمياه، بعيداً عن أحلام التنقيب والثروة الساذجة؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا