غادر السفير البريطاني في لبنان نهائياً، وتم تعيين خلف له. قيل إن الاسباب شخصية وعائلية، وفي هذا الكلام الكثير من الدقة. لكنّ آخرين من العاملين بصورة رسمية وغير رسمية مع السفارة البريطانية في بيروت غادروا ايضاً من دون ضجيج، لكن ليس لأسباب شخصية ولا عائلية. أما من ظل منهم، فقد جاءته النصيحة بأن يكون شديد الحذر، ويتصرف على أساس أنه تحت المراقبة، وأن يعمل على إقناع افراد عائلته بعدم جدوى الاقامة في بلد مقبل على الانهيار.لكنّ مكاتب الاتصال والعمل غير الرسمية لم تقفل كلها. الى الآن، لا يزال شارع بدارو، مثلاً، يعجّ بـ«الشباب الاجنبي» الذي يهتم لأمر الشعبين اللبناني والسوري. هؤلاء، يعملون وفق مبدأ الدفع نقداً. لا حوالات ولا إيصالات ولا حتى تسجيلات. فقط هناك اتفاق على عمل يتم بين المشغّل وشباب لبناني يبحث عن عمل، وكل ما يعرفه أنه يقوم بأعمال الترجمة أو البحث أو كتابة عن أمور عادية يعرفها كل أبناء الحي. لكن مستلم المادة، ليس فقيراً وساذجاً. جمع كل هذه الداتا يجري في سياق خطة أوسع، هدفها معركة اتجاهات الرأي العام لدى الاوساط الشبابية اللبنانية.
البريطانيون أصحاب الخبرة في الاستعمار القديم باتوا اصحاب خبرة ايضاً في خدمات الاستعمار الجديد. في العراق كانوا يضحكون على الاميركيين كيف يديرون الامور بفوضى، وفي سوريا نجحوا في إقناع الاميركيين بترك بعض المهام لهم، كما هي الحال الآن في دول خليجية وفي اليمن على وجه الخصوص. عندنا، يتعرف البريطانيون من جديد على طواقم شبابية تهوى الغرب وأسلوب حياته. وبعض هؤلاء يتحمسون للعمل علناً مع أي عاصمة غربية. لكنّ البريطانيين، الذين سبق أن جرّبوا احتراق الجواسيس بعد كل انهيار، لا يريدون المغامرة. هم يفضّلون إدارة الامور بهدوء، وبصمت، وبعيداً عن أي جلبة.
بعد أشهر من انتشار الإحباط بين «كوادر» 17 تشرين، عمد البريطانيون الى تحفيز بعض الناشطين، عرضوا مشاريع عمل كثيرة تركز على الفساد وكشف المستور عن الطبقة السياسية الحاكمة، وتحديد مصدر الخطر الحقيقي على موقع لبنان ودوره. لا يحتاج البريطانيون الى شروحات كثيرة، لكنهم في بعض الحالات يغضبون، وعندما يلحّون على إنجاز أمر معين، هم يحددون العنوان فوراً: المطلوب التدخل لتحقيق انزياح في تموضع الشباب بين قواعد التيار الوطني الحر عند المسيحيين والقواعد «المتعلمة» المؤيدة لحزب الله عند الشيعة. وهم يفترضون - بكل أسف - أنه لا داعي لبذل جهد كبير في الاوساط الاخرى، حيث تربط حكومة صاحبة الجلالة بأقطاب الطوائف علاقات تعود الى عشرات بل مئات السنين، كما هي الحال مع المرجعية الدرزية ومع النادي الذي ترسخ مع رفيق الحريري عند السنّة.
البريطانيون يعرفون جيداً ما يحصل في لبنان منذ 18 شهراً على الاقل. لهم إصبعهم في كثير من الامور، وهم لا يتحدثون بجزم عن استراتيجية واضحة وحاسمة. وقبل اسابيع، تولى أبرز وزراء الحكومة البريطانية شرح الموقف من الوضع في لبنان امام شخصيات لبنانية وعربية من بلادنا، التقاهم على هامش اجتماع خاص في العاصمة البريطانية. كان شديد الوضوح في الحديث عن تضارب في الافكار لدى الغرب حيال ما يجب القيام به في لبنان. لكنه شدد على وجود خيار قوي، يقول بأن هناك من يعتقد أن لبنان يصعب إصلاحه مع هذه الطبقة الحاكمة، وأنه يمكن توفر فرصة كبيرة في حال أطيحت. واذا كان الانهيار العام هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، فسيكون من الصعب على اللبنانيين توقع أي نوع من انواع الدعم في المدى القريب... و في هذه الاثناء، يجب العمل بقوة على كل من يقبل الانضمام الى عالم الـ«ان جي أوز»، العنوان الأكثر جذباً لجواسيس الغرب الجدد المنتشرين في أماكن وقطاعات كثيرة، وجلّهم يدعو الى الثورة باسم الحرية والسيادة والاستقلال...
بريطانيا كانت ولا تزال معقل الفكر الاستعماري، سواء فعلت ذلك بيدها وبقرارها، أو كمستشارة عند جلاد العالم الجديد. وكل كلام عن ديموقراطية وحرية وغير ذلك، يمكن التعرف عليه، في الغرفة الضيقة، حيث تتم عملية الاغتيال البطيئة لأحد أبطال التحرير، المناضل المعتقل جوليان أسانج.
صاحبة الجلالة... للجميع أعين وآذان وقلوب قوية متى احتاج الأمر!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا