اذا عُدّ اقرار مجلس النواب البارحة قانون رفع السرية المصرفية عن حسابات مصرف لبنان والوزارات والادارات والمصالح كلها سنة احياء للتحقيق الجنائي ورتْقاً لفتْق، فإن التحقيق العدلي الجاري في انفجار مرفأ بيروت مع انتقال الملف الى محكمة التمييز الجزائية ينتظر رتْقاً لفتْق ليس اقل اهمية عن ذاك. في الثاني فجوة عميقة تشبه التي يتحدث عنها مصرف لبنان في حساباته المالية المفلسة. مع ذلك، فإن المشكلتين اكبر بكثير من الرجلين، وإن تباين موقعاهما حيال ما حدث قبلاً ولا يزال يحدث او سيحدث. بالتأكيد هما يمثلان في الوقت الحاضر المؤسستين المفترض انهما معنيتان بالاسرار، لكن بأدوار مناقضة ومقلوبة لما يفعله رجلاهما: الاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي لا يتقن سوى اخفاءها فيما هو مدعو الى العكس، والثاني المحقق العدلي فادي صوان المنوط به فضحها فيما يُنَاوأ كي يفعل العكس.تزامن هذين الملفين ينبئان ببضعة معطيات في مدى قريب:
اولها، بعث الروح في التحقيق الجنائي بفتح باب التفاوض مع شركة جديدة تتولاه، بعد انسحاب «الفاريز اند مارسال» في 26 تشرين الثاني على اثر حجب مصرف لبنان عنها حساباته المالية بذريعة السرية المصرفية وقيود قانون النقد والتسليف. وقد تجاوزهما البرلمان امس بصيغة جامعة موقتة. يعزز الاصرار على مفاوضات جديدة، ان قرار مجلس الوزراء بالتدقيق الجنائي لا يزال نافذاً رغم مغادرة الشركة المختصة. اضف ان قانون رفع السرية المصرفية لسنة وربطه حصراً بالتحقيق الجنائي لمصرف لبنان، دونما التعرّض للقانونين الاصليين وهما قانونا النقد والتسليف والسرية المصرفية، وجّه رسالة ايجابية من مجلس النواب بعد الجدل الذي اثاره تعاطيه مع رسالة رئيس الجمهورية في الجلسة السابقة. عنى يومذاك توسيع رقعة التحقيق الجنائي دفنه، اكثر منه التوغل في كشف اسباب انهيار الاقتصاد والعملة الوطنية في آن معاً، والمسؤولية المترتبة - من دون ان يكون الوحيد - على حاكم مصرف لبنان بإزاء ما حدث.
ثانيها، قرار الغرفة السادسة في محكمة التمييز الجزائية حيال مذكرة الارتياب المشروع في المحقق العدلي القاضي صوان التي تقدّم بها وزيران سابقان نائبان ادعى عليهما هما علي حسن خليل وغازي زعيتر. ما يقتصر عليه دور المحكمة الموافقة على نقل الملف من صوان او رده فحسب، دون امتلاكها صلاحية تعيين قاض سواه، المنوط بوزيرة العدل ماري كلود نجم بعد اقتراح مجلس القضاء الاعلى على نحو ما حصل في 13 آب. حدود هذا الدور والاختصاص، حتى انقضاء مهلة عشرة ايام بدءاً من 16 كانون الاول، يقلل من فرص توقّع اتخاذ قرار يقلب التحقيق العدلي رأساً على عقب. بعض المعلومات المستقاة من قصر العدل تتحدث عما يتجاوز نقل ملف الى «هيبة» القضاء نفسه، ناهيك بالقاضي الذي يحظى - في معزل عن ثغر ادائه الاخير وضعضعته - بدعم مجلس القضاء الاعلى. في ما يُوحى به عند الجهات المعنية ذات الشأن، ان من غير الوارد «كسر شوكة» صوان، ولا جعله «كبش محرقة» في لعبة سياسية إفتضح لاعبوها. مفاد ذلك ان من غير المستبعد ابقاء الملف بين يديه، ورد المذكرة بتعليل ان ليس ثمة ما يبعث على «الارتياب المشروع».
من غير المؤكد ان الارتياب بصوان يؤول الى تنحيته


ثالثها، ان الازمة الناشبة بين صوان ومجلس النواب من جراء تعاطيه المزدوج مع ملف انفجار مرفأ بيروت، باعترافه اولاً باختصاص المجلس بملاحقة رؤساء الحكومات والوزراء ثم باسترجاعه اليه هذا الاختصاص، لم توصد الابواب امام حلول تقود الى كشف حقائق ما حدث في المرفأ، والجناة الفعليين، كما اولئك المقصّرين. ما فعله صوان حتى الآن انه ادعى ولم يتهم، والمنتظر ما سيتضمنه قراره الاتهامي لاحقاً في ضوء استكماله تحقيقاته واستجواباته، قبل احالته الى المجلس العدلي. اذذاك يمسي المكان المناسب لتحديد المرجعية صاحبة الاختصاص. وهو سبب كاف كي يُعتقد بأن صوان لن يُنحّى.
رابعها، ان اي قاض آخر سوى المحقق العدلي الحالي المشكو منه، لن يسعه ان يبدأ الا من حيث انتهى صوان، وإن يكن البعض المخاصم للمحقق العدلي يعتقد ان انتقال الملف بدعوى الارتياب يفترض نسف الوقائع المدلاة حتى الآن. اي تراجع عما انجزه صوان حتى الآن - مع ان البعض المخاصم بدأ تداول اسماء قضاة يخلفونه - سيُفسَّر للتو على انه ناجم عن تدخّل سياسي مباشر لحرف التحقيق العدلي عن مساره. بذلك يترتب على تسييس الملف استبعاد اي شبهة عن جهات سياسية قد تكون ضالعة في انفجار المرفأ. واقع الامر ان استنفار الطبقة السياسية برمتها على ما اثاره صوان، فسّر بدوره وجود رؤوس اكبر حجماً واكثر شأناً من اولئك الموقوفين الـ25 بتهم التقصير والاهمال. من ذلك تيقن البعض ان صوان هو اول المحققين العدليين في انفجار مرفأ بيروت وآخرهم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا