لا «غزوات» جديدة على المؤسّسات والمطاعم ومحلّات بيع المواد الغذائية كما في أيام «حملة سلامة الغذاء» الشهيرة، عام 2015، التي قادها آنذاك وزير الصحة وائل أبو فاعور. أساساً، كانت تلك أشبه بـ«قنبلة صوتية» سرعان ما اختفى دويّها، من دون أن تؤسس لمعايير مراقبة مستدامة ورادعة لحماية الأمن الغذائي للمقيمين. اليوم، إعادة رفع شعار «غير مطابق للمواصفات» قد يبدو ترفاً، وسط انهيار اقتصاديّ غير مسبوق. وما فضيحة تخزين الطحين العراقي سوى واحد من أبعاد حجم الاستهتار بصحة الناس، في وقت يعدّ سؤال جودة الغذاء أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى، بسبب تدنّي القدرة الشرائيّة للبنانيين وانفلاش البضائع الزهيدة الثمن التي غزت الأسواق من دون رقابة، إلّا في ما يتعلّق بتصنيفات «المدعوم» و«غير المدعوم» من السلة الغذائية!النتيجة «الطبيعية» لكلّ هذا زيادة تلوث الغذاء، وهو ما أكّدته نتائج صادمة لدراستين أعدّتهما مجموعة من طلاب كلية الصحة في الجامعة اللبنانية - الفرع الأول. الأولى حول سلامة مثلجات الـ«فريسكو» والعصائر الطبيعية، والثانية حول المشروبات التي تُعاد تعبئتها (Refill) في مطاعم الوجبات السريعة.

(هيثم الموسوي)

أظهرت التحليلات المخبرية في الدراسة الأولى أن 100 في المئة من عيّنات الـ«فريسكو»، المشروب المثلج الذي يُستهلك صيفاً بكميات كبيرة، غير مطابقة للمواصفات وليست صالحة للاستهلاك، رغم أن الثلج الموجود في هذا المشروب يُفترض أن يشكل عاملاً غير مساعد لنمو البكتيريا. فيما جاءت نتائج تحليل 40 في المئة من عيّنات العصير الطبيعي غير مطابقة ولا تصلح للشرب.
الدراسة التي عملت عليها الطالبة سيرين عيّاد اعتمدت معايير أوروبية (لوكسمبورغ) لأن لا وجود لمعايير خاصّة بهذه العصائر لدى «مؤسسة المقاييس والمواصفات اللبنانية» (ليبنور). وقد جمعت لكلّ من الـ«فريسكو» والعصائر 10 عينات من مناطق مختلفة في بيروت (الطريق الجديدة، الزيتونة، الروشة، الحمرا، بربور، النويري، رأس النبع، المصيطبة، سليم سلام، مار الياس). وأظهرت النتائج تلوّث كل عيّنات الـ«فريسكو» بواحدة أو أكثر من خمسة أنواع من الجراثيم والبكتيريا، وهي: القولونيات، الخمائر، الأعفان، الإمعائيات، وأحياء مجهرية أخرى. علماً أنه يكفي أن تحتوي العيّنة على نوع واحد من هذه البكتيريا لكي تُعتبر غير مطابقة.
غالبية العيّنات سجّلت تلوثاً عفنياً. وجاءت نسبة الخمائر والأعفان في إحدى العينات بنسبة UFC/ml 1.8 × 104 فيما الحدّ الأقصى المقبول من المعايير لا يتعدّى UFC/ml 103. وإضافة إلى تسبّبها في تلف الأطعمة والأغذية، تسبّب المستويات المفرطة من الأعفان أمراضاً وتسمّماً غذائياً، خصوصاً ببعض أنواع السموم الفطرية كالـ«أفلاتوكسين». وتشمل أعراضها، وفق الدراسة، الصداع والقيء والإسهال المصحوب بفقدان الشهية. وهي تختلف في شدّتها بحسب العمر والجنس والحالة الغذائية والصحة العامة. وقد تتسبّب في بعض الأحيان بالسرطان، بحسب مدى التعرّض لها ومدته.
إلى ذلك، فإن 50 في المئة من العيّنات أظهرت تلوثاً بالأمعائيات Enterobacteries. فقد سجّلت إحداها UFC/ml 5.6 ×102 متخطية المعيار UFC/ml 102 بخمسة أضعاف. ويعدّ ارتفاع الأمعائيات مؤشّراً على عدم النظافة وعلى عدم سلامة الغذاء، ما يسبّب أمراضاً بكتيرية رئيسية تتنقل عبر الغذاء. ورغم أن سلالات بعض أنواع الأمعائيات غير ضارة بحسب ما تُشير الدراسة، مثل بعض سلالات الإشريكية القولونية، إلّا أن بعضها الآخر من المسبّبات المهمة للأمراض البشرية والحيوانية.
الدراسة سجّلت أيضاً تلوثاً بنسبة 100 في المئة لكل العينّات بالأحياء المجهرية Flore total، وهو مؤشر على المستوى العام للنظافة. ‬ففي حال تجاوز العدد المسموح به في المواصفات يعدّ الطعام غير صالح للاستهلاك البشري، كونه مؤشراً إلى «ممارسات سيئة» في المؤسسة (سلسلة التبريد غير محترمة، التبريد السيئ، التخزين لفترات طويلة، انعدام النظافة ووجود الصرف الصحي).
نتائج الدراسة الثانية حول «الصودا» أو «الكولا» التي تُعاد تعبئتها (أجرتها الطالبة فاطمة ترو) جاءت مطابقة لنتائج دراسة حول الموضوع نفسه أُجريت العام الماضي (للطالبتين ريما غنوي وفاطمة خير الدين). وهو ما يشير إلى أمرين، الأول عدم الاهتمام بالنظافة من قِبل المطاعم التي تقدّم هذه المشروبات، والثاني استمرار غياب الرقابة الرسمية. الدراسة الحديثة شملت ثلاثة أنواع من البكتيريا (الخمائر والأعفان، القولونيات، الأحياء المجهرية)، واعتمدت معايير «ليبنور»، وجاءت نتائج العينات غير مطابقة للسنة الثانية على التوالي. على سبيل المثال، فإنّ العدد الإجمالي للأحياء المجهرية المسموح توفرها وفق المعايير (total mesophilic flora) هو 10 مستعمرات في كل 1 ملل، فيما تجاوزت أقل نتيجة لعينات الدراسة خمسة أضعاف هذا الحد، وتخطّى بعضها الـ 300 ضعف! أمّا بالنسبة إلى الخمائر والأعفان، فالمسموح هو 50 مستعمرة لكل 100 ملل، فيما تجاوزت كل العينات الـ 80 مستعمرة! أما القولونيات الإجمالية (Total coliforms) فالمعيار المسموح هو أقل من مستعمرة واحدة في كل 100 ملل، وقد تبيّن أن ثلاثة مطاعم من أصل خمسة شملتها الدراسة غير مطابقة للمعايير. إذ أن وجود القولونيات في الطعام دليل على عدم غياب التنظيف والتعقيم واحتمال استخدام مواد ملوثة في تحضير الأطعمة والمشروبات وظروف تخزين سيئة. وقد جاءت هذه النتائج رغم أن وجود الأسيد في مثل هذه المشروبات يعد بيئة غير صالحة لتكاثر البكتيريا. والخطير في الأمر هو أن هذه المشروبات محبّبة لدى نسبة كبيرة من العائلات والأطفال التي تقصد مطاعم الوجبات السريعة.
تراجع عائدات المؤسّسات والمطاعم يؤثّر سلباً على اهتمامها بالنظافة والتعقيم وتجديد الآلات


الدراستان أُجريتا في «المركز الوطني لجودة الدواء والغذاء والمواد الكيميائية» التابع للجامعة اللبنانية، بإشراف الدكتور محمد قوبر الذي قال لـ«الأخبار» إن قطاع الغذاء في لبنان «سايب»، و«ما أثبتته الدراستان، خصوصاً دراسة الصودا المقارنة بين عامين، هو أن لا رقابة على غذاء اللبنانيين، وأنهم متروكون لقطاعات غذائية لا تبالي بألف باء النظافة في حدها الأدنى». وحذّر من أن الأمور «آخذة في الاستفحال في ظل الانهيار الاقتصادي. إذ يؤثر ضعف القدرة الشرائية للناس في تدنّي المستوى الغذائي، كما أن تراجع عائدات المؤسسات والمطاعم يؤثر سلباً على اهتمامها بالنظافة والتعقيم وتجديد الآلات التي يشكل تقادمها وعدم تنظيفها وتعقيمها يومياً خطراً حقيقياً على الصحة». وهذا «يستلزم القيام بجولات رقابة جديّة ومكثّفة من المؤسسات المعنية، ولا سيما وزارة الصحة ومصلحة حماية المستهلك، على أن تلعب البلديات دوراً رقابياً لتغطية كل المناطق»، لافتاً إلى ضرورة أن تتوسع الدراسات لتشمل كل مناطق لبنان، «وهذا يستدعي تمويل الوزارات المعنية، وزارة الصحة تحديداً، لأنها ذات كلفة عالية على المختبرات».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا