عودة إلى النقطة الصفر. مساعي «إسرائيل» وجهودها، المعلنة وغير المعلنة، فشلت في إيقاف تزوّد حزب الله بالصواريخ الدقيقة. والفشل هنا ممتدّ بمعنى أنه متواصل وبمستوى وتيرة التطوير والتصنيع اللذين تتحدث عنهما تل أبيب.
(هيثم الموسوي)

هل يستدعي ذلك أن «يدرس» العدو خياراته من جديد، أو ما تبقى منها، للحؤول دون تواصل الفشل ومراكمة المقاومة منبع قوة إضافية، من شأنها في حال تعاظمها أن تصعّب على «إسرائيل»، وبمستوى عالٍ جداً، المناورة على اختلافها في مواجهة لبنان، وربما أيضاً في الإقليم؟
الانتقال من التعاظم الكمّي الذي بات مُشبَعاً إلى مسار التعاظم النوعي الدقيق، وهو ما تسمّيه «إسرائيل» مشروع «دقة صواريخ حزب الله»، جاء نتيجة مخاض عسير وطويل وشاقّ، تخلّله جهد إسرائيلي في أكثر من اتجاه ومستوى، مع أفعال عدائية مباشرة وغير مباشرة، معلنة وغير معلنة، وكم هائل من التهديدات التي تواصلت وتركزت في العامين الماضيين، ولم يكن ينقصها شيء لرفع مستواها وتظهير جديتها بعد مشاركة الجانب الأميركي فيها وتبنيها بالكامل.
إلا أن المواجهة هي على خطّ تعاظم عسكري نوعي للمقاومة لم ينته. ويتعذّر تصور انتهائه. المعنى المقصود هو أن أسئلة الأمس هي نفسها أسئلة اليوم، وكذلك هي أسئلة المقبل من الأيام: هل تباشر «إسرائيل» حربها على لبنان، وهذه المرة لمنع التطور النوعي لسلاح حزب الله؟
في الأمس، كانت الحرب، والبحث في إمكاناتها، محلاً لأسئلة لا تنتهي: هل تبادر «إسرائيل» إلى شن الحرب في حال تجاوز عدد الصواريخ التي باتت في حوزة حزب الله الأربعين ألفاً؟ ثم تطورت الأسئلة إلى البحث في عتبة الستين ألفاً، فالثمانين، ومن ثم المئة ألف، فالمئة والسبعين ألفاً. لكن الحرب لم تنشب. وتوقفت «إسرائيل» عن العَدّ. والجانبان، انتقلا من معركة العدد والكم إلى معركة المدى والقدرة التدميرية، بين سعي المقاومة إلى مراكمة قوة تدميرية تصل إلى كل نقطة جغرافية في فلسطين المحتلة، وبين سعي مقابل إلى منع هذا التعاظم، الذي عُدّ في حينه تجاوزاً لكل الخطوط الحمر. وتكفي مراجعة التصريحات والتهديدات الإسرائيلية في العقد الأخير وما قبله، للعودة إلى أجواء توثب العدوّ نحو الحرب، وهي كانت لدى البعض وشيكة. فـ«إسرائيل» لا تقوى على التعايش مع تهديد من هذا النوع: قوة تدميرية كبيرة جداً، ووسائل صاروخية لإيصال هذه القوة إلى وسط فلسطين المحتلة وأقصى جنوبها.
اللواء يؤال سترايك: يكفي أن يكون لديك 20 صاروخاً دقيقاً لتغيّر وجه المعركة


مع ذلك، بلورت «إسرائيل» في حينه نظريات وآراء ومواقف عملياتية، لتبرّر فشلها في صدّ التعاظم النوعي التدميري الطويل المدى لحزب الله، ومن ثم التعايش مع هذا الفشل، عبر نظرية ردع المقاومة عن استخدام الترسانة التدميرية، وإن كانت المواجهة الإسرائيلية في الأساس هي لردع المقاومة عن امتلاك هذه القوة. فهذه القوة قادرة على ردع إسرائيل بمجرد امتلاكها مع الاستعداد لاستخدامها في مستوى دفاعي، (وهذه هي وجهة حزب الله واستراتيجيته في مواجهة العدو).
الا أن الكلام عن المدى والقدرة التدميرية تراجع كثيراً، أمام خيارات بديلة وجدت «إسرائيل» أنها كافية في ذاتها لإنهاء سلاح حزب الله، الكمّي والتدميري، بل أيضاً إنهاء حزب الله بوصفه مقاومة للاحتلال. كانت المسألة في متناول يد «إسرائيل» وكان عليها حصراً أن تنتظر النتائج. لكن مآل الحرب السورية ناقض أمل «إسرائيل» ومساعيها، فعادت المواجهة إلى النقطة الصفر. لكن هذه المرة مع تجاوز وتعايش قسري للكمّ والمدى والقدرة التدميرية، مع «ظهور» معركة أكبر من المعركتين الأوليين وأكثر تهديداً لـ«إسرائيل»: مشروع دقّة الصواريخ، تطويراً وتصنيعاً.

فشل الرهان السوري البديل
شكّلت الحرب على سوريا خياراً بديلاً لـ«إسرائيل»، يقيها مواجهة عسكرية مباشرة ضد المقاومة لصدّ ومنع أو حتى تأخير تعاظمها العسكري، في مستويات ما قبل الدقة. وهو خيار شبيه بخيار الرهان على تطورات الداخل اللبناني المشبع بالخصومة في وجه حزب الله، وتحديداً بعد خروج الجيش السوري من ساحة التأثير عام 2005، وهو الخيار الذي فشل واستتبع من «إسرائيل» والولايات المتحدة تفعيل الخيارات العسكرية عام 2006.
إلا أن الفشل الإسرائيلي في التصدي للتعاظم في مستوى (ونوع) تسلّحي ما، يستدعي بالضرورة تعاظم ثمن المقاربات المتطرفة للعدوّ إنْ قرر خوض المواجهة العسكرية من جديد مع فشل الخيارات البديلة. فإن كان الفشل ــــ الذي منيت به إسرائيل بعدما راهنت على الاشتباك الداخلي في لبنان لإضعاف حزب الله ــــ استدعى منها حرباً مع أول فرصة بانت لها عام 2006، إلا أن فشل الرهان على الخيار البديل الآخر لإضعاف حزب الله واجتثاثه عبر الحرب السورية، لم يستدع من إسرائيل مباشرة حرب في أعقاب الفشل الجديد. تكلفة الحرب باتت بمستوى أعلى وأكثر إيذاءً. وما كان يمكن الرهان عليه عسكرياً عام 2006، لم يعد بالإمكان الرهان عليه، باطمئنان، في أعقاب عام 2015، عندما تلمست إسرائيل فشل رهانها على الساحة السورية وانقلابها على محور المقاومة.
لكن ما بين الفشل والفشل، تعاظمٌ إضافيّ لقدرات حزب الله، يرفع من جديد تكلفة الحروب الإسرائيلية إن بادر العدو إليها. فكان الخيار الذي واجهت به تل أبيب حزبَ الله هو خليط مما تبقى من أشلاء خيارات سابقة، كان الهدف منها إشغال حزب الله بانتظار خيار بديل، هذه المرة وصل إلى طهران نفسها، والرهان كان على أن سقوط النظام الإسلامي في إيران يُسقط حزب الله، بل وكل قوس التهديدات القائمة في وجه «إسرائيل».
صاحَبَ الرهانَ على إسقاط إيران و/ أو إخضاعها عبر الحليف الأميركي وحصاره لها، تطورٌ هائل وبمستويات غير مسبوقة في سياق المواجهة بين الجانبين، ويتمثل في «مشروع الدقة» الذي بدأت إسرائيل تصرخ وتتحدث عنه علناً منذ عام 2016. وتهديد «الدقة» يصغر معه أي تهديد آخر على أهميته، مهما كان حجمه ومستوياته. و«يكفي أن يكون لديك عشرون صاروخاً دقيقاً لتغيّر وجه المعركة»، بحسب ما ورد على لسان أحد قادة العدو العسكريين، قائد المنطقة الشمالية السابق في جيش الاحتلال، اللواء يؤال سترايك.
سقوط الخيارات البديلة من المبادرة العسكرية الإسرائيلية لمواجهة تعاظم حزب الله، مع الوافد الجديد على هذا التعاظم وهو دقة الصواريخ ووسائل قتالية أخرى مكشوفة وغير مكشوفة، يستدعي من «إسرائيل» ــــ أو بتعبير أدق: استدعى منها ــــ دراسة خياراتها، ومن بينها بطبيعة الحال الخيار العسكري الموسع. فإلى أين وصلت هذه «الدراسة»؟

ثمن الحرب الإسرائيلية على لبنان لا يُقارن مطلقاً بالثمن الذي دفعته عام 2006


من الواضح أن «إسرائيل» ما كانت لتتبع أي خيار بديل من الحروب ما لم تكن تكلفتها أعظم من فائدتها، وهو في الأساس ما دفعها إلى السعي والرهان على الخيارات البديلة للحرب في مواجهة حزب الله، طالما أن الرهان معقول ومقدّر له النجاح في تحقيق نتيجة الحرب نفسها، بلا تكلفة. لكن مع كل مرة تفشل فيها البدائل، تتعاظم ــــ مع تعاظم السلاح ــــ تكلفة الحروب، فتندفع «إسرائيل» أكثر الى البدائل. فهل ينطبق ذلك على مشروع الدقة؟ السؤال كبير جداً ومتشابك في ذاته، ويمكن أن تستتبعه إجابات في أكثر من اتجاه.
المؤكد أن «إسرائيل» الآن ــــ كما منذ أشهر ــــ مدركة وفق تقديراتها أن الخيار البديل في إسقاط إيران أو إخضاعها عبر الأميركيين، وصل أيضاً إلى الفشل، وأن دراسة الخيارات ومن بينها الخيارات العسكرية وُضعت طويلاً على طاولة القرار. فهل ارتدّت هذه الخيارات إلى الخلف؟ هل البحث جارٍ عن خيارات أخرى بديلة غير عسكرية؟ أم أن المعركة مقبلة وتوقيتها مؤجل؟
المؤكد أن ثمن الحروب الإسرائيلية في مواجهة لبنان لم يعد كما كان عليه في الماضي، وهو ثمن لا يُقارن مطلقاً بالثمن الذي دفعته عام 2006. وهذا الثمن هو، حصراً، ما يدفع العدو إلى التراجع عن أي توثب للمبادرة إلى المواجهات العسكرية ضد الساحة اللبنانية تحديداً. ولا يغيّر من هذه المعادلة أنّ بإمكان «إسرائيل» أن تلحق ضرراً بلبنان أكثر بكثير مما يمكن للمقاومة إلحاقه بها.
في سياق تحذيرات سترايك أيضاً، يجب التنويه بالترسانة الصاروخية وغير الصاروخية، بمستوياتها التقليدية، الموجودة في حوزة حزب الله، التي من شأنها أن تسلّط الضوء على جزء من عوامل التأثير في وجه أي قرار إسرائيلي بالاعتداء على لبنان. كتبت صحيفة «جيروزاليم بوست» (15 كانون الأول 2020)، وقبلها وسائل إعلامية عبرية مختلفة، عن قدرة حزب الله العسكريّة في أي حرب مقبلة، لتؤكد نقلاً عن مصادر عسكرية أن بإمكانه إطلاق ما يصل إلى 4000 صاروخ وقذيفة في اليوم، مقارنة بإجمالي أقل من 4000 صاروخ أطلقت خلال حرب تموز 2006. وللحديث صلة...