الأمر لم يتمّ فجأة. منذ وقت غير قصير، جرى إقناع قائد الجيش العماد جوزيف عون بأنه أقوى المرشحين لرئاسة الجمهورية. وتعزز الأمر بعد كثرة الحديث عن صحة رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، والنشاط الاستخباري ــــ الطبي القائم في لبنان مع مستشفيات وأطباء ومرافقين لمعرفة أحوال الرئيس الصحية: أوقات نومه، عمل جهازه العصبي، ساعات الذروة في النشاط، الشرود والنسيان، إضافة إلى الجهد العضلي. وهو ملفّ موجود أيضاً لدى قائد الجيش نفسه. طبعاً، جوزيف عون يحبّ ميشال عون، والأخير عندما أقنع القوى السياسية في البلاد بأهليّته لتولي منصب القائد الجديد للجيش، كان يردّد عبارتين على شكل ثابتتين: نظيف لا يمدّ يده على المال العام، مهني يهتمّ بتطوير قدرات الجيش وغير مهتمّ بالسياسة، ولا طموحات رئاسية عنده. وطبعاً، كان الرئيس عون يرفق كل هذه الصفات بالضرب على صدره: الموضوع عندي، جوزيف عون ليس مرشحاً للرئاسة، ولن يكون عنده جدول أعمال خارج المؤسسة العسكرية، لا داخلياً ولا خارجياً!ليس من داعٍ هنا لإيراد آخر رأي للرئيس عون في ما قاله سابقاً. ولا حاجة إلى شرح ما طرأ على علاقة الرجلين خلال السنتين الأخيرتين. لكن المفيد في الأمر أن في القصر الجمهوري، اليوم، من يتعامل مع قائد الجيش الحالي على أنه أحد المرشحين الأقوياء للجلوس على الكرسي الرئاسي!
حتى هذه اللحظة، تبقى الأمور في مكان مقبول. لكن الجديد أن قائد الجيش كان ينفي كل صلة له بالملف الرئاسي ترشيحاً أو طموحاً أو عملاً. لكنه عدّل في موقفه، وانتقل إلى الكلام عن «حقه المشروع» في أن يكون مرشحاً رئاسياً لإنقاذ البلاد. والجديد أنه قال بنفسه هذا الكلام أمام ضباط يثق بأنهم رجاله. وردّده أيضاً أمام ضباط يعتقد أنهم مندوبون لدول في الجيش. ثم أعاد الرواية أمام ضباط يعتقد أنهم ينقلون كلامه إلى جهات أساسية في البلاد. وهو، مع الأسف، يميّز الضباط وولاءهم انطلاقاً من حسابات كثيرة، من بينها هويتهم الطائفية والمذهبية.
لندع جانباً النقاش حول حقّ الرجل في الترشح لهذا المنصب من عدمه. إذ لا يوجد في الدستور ما يمنعه من ذلك، كما أن عُرف العقدين الأخيرين يشجعه طالما تناوب ثلاثة قادة للجيش على رئاسة الجمهورية. ويعزّز طموحه الوضع القائم في البلاد، حيث يجري التنظير لدور الجيش كمنقذ وسط الانقسامات السياسية القائمة في البلاد. وزاد في الأمر الكلام المباشر لعواصم عربية وغربية عن الحاجة إلى الجيش ودوره، بما في ذلك سعي بعض كوادر «المنظمات المدنية» ذات البعد العالمي، الى خطب ودّ القائد، باعتباره سلّماً يمكن استخدامه لإطاحة السلطة القائمة ونقلها إلى هؤلاء المدنيين الاختصاصيين الآدميين المتعلمين والذين يعرفون مخاطبة الغرب... إلى آخره من المعزوفة التي تقودنا مع هؤلاء إلى مكان واحد، هو السفارات وليس أكثر. وواضح هنا أن غالبية «صبية السفارات» الناشطين في «الشركة اللبنانية للثورات المدنية»، بدأوا مرحلة المحاباة وفق توصيات القناصل الذين يعتقدون أن الجيش هو الإدارة الوحيدة التي يمكن استخدامها في وجه المقاومة من جهة، وفي عزل لبنان عن المنطقة من جهة أخرى. والعزل هنا يعني سوريا، لأن «جماعة السفارات» لا يعرفون ماذا يوجد على حدود لبنان الجنوبية، بل يعرفون أمراً واحداً، وهو أن الجيش يجب أن يكون «الحيلة» التي تمكّنهم من تسلّم السلطة... ألم تسمعوا الثائر الكبير الذي طالب ديفيد شينكر بتعيينه وزيراً للدفاع حتى يقدر على مواجهة حزب الله في كل لبنان!
طبعاً، يتّكل القائد على وضعية داخلية معقّدة. يفترض أن الجيش لا يزال المؤسسة الأمّ عند المسيحيين، وأنه صار المؤسسة المرغوبة عند كل خصوم حزب الله. وصار الضباط يتندّرون: حتى وليد جنبلاط وسمير جعجع يريدان الجيش!
القائد يعتبر «جدياً» أن الجيش يملك من القوة والمواد والمهارات ما يمكّنه من الإمساك بالبلاد في ساعات قليلة. وهو يثق بأن برنامج المساعدات الأميركية والبريطانية له سيمنحه عناصر القوة التي تبقيه على قيد الحياة ولو انهارت الدولة كلها، وخصوصاً أنه سمع كلاماً أميركياً ــــ بريطانياً واضحاً حول ضرورة توفير رواتب وحاجات العسكريين مهما حصل في البلاد. وهو أيضاً يتصرّف على أساس أن القاعدة الشعبية المسيحية في لبنان، كما المرجعية الدينية، تمنحه البركة الكافية لحمايته سياسياً، وأن خصومه في الساحة المسيحية ليسوا أقوياء بما يكفي لعرقلة دوره كقائد للجيش أو كمرشح رئاسي. وهذا ما جعله يعدّ جدول أعمال يتضمن المهادنة أو المشاكسة مع كل المرشحين للرئاسة، من جبران باسيل إلى سمير جعجع إلى سليمان فرنجية، علماً بأنه لا يقيم وزناً لكل المرشحين الآخرين المفترضين من خارج نادي القوى السياسية المعروفة.
مشكلة القائد في قراءته الناقصة لواقع المؤسّسة العسكرية ولواقع البلاد ولنوعيّة التغييرات التي طرأت عليها


لكن مشكلة القائد ليست هنا، بل في قراءته الناقصة لواقع المؤسسة العسكرية نفسها، ولواقع البلاد، ولنوعية التغييرات التي طرأت عليها في العقود الثلاثة الماضية. ربّما هو لا يزال يرفض النقاش معه حول الواقع القيادي في المؤسسة العسكرية: من هم المحظيّون ومن الذين يتمّ إقصاؤهم، من هم المفضّلون لتولّي مناصب جدية بمعزل عن رتبهم، ومن يجب تكليفهم بمهمات فخرية قبل خروجهم إلى التقاعد. وهو غير قادر على إخفاء هذه الأمور عندما يقارب مسألة التشكيلات داخل المؤسسة وفروعها وقطعها، كما أنه لا ينتبه إلى أن الجيش لم يعد المغارة المقفلة التي لا يمكن الولوج إلى تفاصيلها وحساباتها وعملياتها. وهو يتجاهل أن كل ما في المؤسسة معلوم عند الناس حتى ولو تم تجاهله أو عدم الحديث عنه. كما يتجاهل أن الكل يعرف حجم التضخم في الجسم الإداري وحتى في الجسم العسكري، ويمارس الإنكار إزاء الملاحظات الجوهرية والعلمية حول موازنة الجيش ومصاريف كبار الضباط والوحدات المتخصصة، ويعتقد أن صفقات الأسلحة، الجيدة منها أو الفاسدة، ليست في متناول الآخرين، ويتّكل على «وهم» بأن كل محاولة لمساءلة المؤسسة العسكرية إنما هي مسّ بالذات الإلهية!
على أن الاخطر، هو تقييمه للواقع السياسي والإعلامي والاقتصادي في البلاد. قائد الجيش يثق فقط بما يقوله له الأميركيون عن وقائع المنطقة والإقليم. ويتّكل فقط على دعم الأميركيين وبعض العرب للمؤسسة العسكرية عتاداً ومالاً، ويفترض أن التعاون الأمني مع أجهزة الاستخبارات العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية وخلافه، يجعله في صورة كل ما يحصل من حولنا. وهو يصدّق ما يعدّ له في مكتبه الخاص من تقارير حول الإعلام المحلي والخارجي، ويصل إلى خلاصات بأن هذا يقبض من فلان وهذا يتبع لفلان وهذا يتمّ ضبطه باتصال وذاك بكلمتين و«فركة أذن»، وما إلى ذلك من ممارسات لم تغادر عقل المؤسسة العسكرية ولا عقل العاملين المدنيين فيها. لذلك، فإن ما قام به مع الزميل رضوان مرتضى في الأيام الثلاثة الماضية ليس غريباً أو مفاجئاً، بل نتيجة طبيعية لكل المقدمات السابقة له.
لكن، هل يسمح لنا حضرة «القائد الرئيس» بأن نلفت انتباهه إلى أنه أمام خيارات ضيقة بسيطة: إما أن يحترم القوانين ولو كانت مزعجة، وإما أن يتحوّل الى مشروع مستبدّ لا يأبه بأيّ نقد أو صوت مخالف. وفي حال قرر المواجهة مع الرأي الآخر، عليه أن يحسب حساباً بسيطاً لوجود مجموعة، لا أقدر على تحديد حجمها وتأثيرها ونفوذها، لكنها مجموعة لا تخافه ولا تخاف عسسه ولا عسكره ولا كل أنواع الترهيب والترغيب والتهويل، وهي مجموعة تنتظر عسسه على أبواب المنازل والمكاتب، وتعرف كل ما يقومون به، تعرف الوجوه والأسماء وأنواع السيارات وأرقام الهواتف وأرقام المذكرات العملانية وكل ما يخطر على باله، وهذه المجموعة ليس لها علاج في ملف القمع، سوى أن يُجهَز عليها قتلاً، وليس أي شيء آخر...
سنبقى نزيد من سؤالنا ورقابتنا المحقّة على كل ما يجري في المؤسسة العسكرية، من مكاتبها القيادية إلى أصغر مركز في آخر قرية في لبنان. سنصرّ على أن نعرف عن كل مصاريف السنوات السابقة، ولن نتوقف عن ملاحقة قضية الضباط الثمانية ولو تدخّل الكون كله، وليس الكنيسة أو جنرالات العالم، لمنع ملاحقتهم بحجة الحفاظ على هيبة الجيش. وسنسأل عن المصاريف السرية وعن نفقات المقرّ العام وعن عديد المرافقين وعن صفقات الأسلحة وعن طبيعة الدعم الخارجي، وعن عدد المستشارين الأميركيين والبريطانيين وشبكاتهم الأمنية وعملهم داخل القواعد العسكرية وعند الحدود، وعن التشكيلات والحقوق وطبيعة المناقلات والمحسوبيات، وعن أعمال المجلس العسكري والأفواج غير الخاضعة للهرميّة التقليدية، وعن دوركم في مرفأ بيروت قبل الانفجار الكارثة وأثناءه وبعده. وعن كل ما يتصل بنشاطكم، وعن الأخطاء المهنية التي تجعل كل مداهمة ملطّخة بدماء مدنيين وعسكريين، وعن الأجهزة الجديدة المستقدمة إلى الاستخبارات لمراقبة هواتف وتطبيقات وحواسيب الناس، وعن تدخلكم في عمل المحكمة العسكرية، وسطوتكم على مفوّض الحكومة... سنسأل عن كل شيء، ولن نتوقّف، وافعلوا ما شئتم تحت القانون أو فوقه، وحرّضوا الطوائف والمذاهب ورجال الدين على أنواعهم، وجيش الإعلاميين المرتشين العاملين عندكم، افعلوا كل ما يحلو لكم.
تعرفون عناوين مكاتبنا ومنازلنا، وتعرفون ما الذي نفعله جهاراً ونهاراً، وافعلوا ما يحلو لكم، تعسّفوا واعتقلوا واقتلوا وأهينوا، لكن اعلموا أن أحداً لن يقدر على حماية الفاسد فيكم، مهما زاد عدد النجوم على كتفَيه!