انتقال ملكية مستشفى حمود إلى خارج العائلة لن يغيّر في ثوابت صيداوية راسخة. الشارع المحاذي للمستشفى سُمي باسم الدكتور غسان حمود. ومبنى العائلة الدائري الذي تحوّل من رمادي إلى زهري لا يزال مشعاً عند المدخل ومزنّراً بالأزهار، برغم الطفرة العمرانية التي نمت حوله وافترست البساتين. عشرات العيادات والمحالّ افتُتحت للترزّق من مرضاه وزواره وموظفيه. لكن الأهم، ما قدّمه غسان حمود على المستوى العام.لم تكن عائلة حمود أولى العائلات التي خسرت مستشفاها. في صيدا، صروح استشفائية عدة بيعت أو هُجرت: «نجم» و«عبود» و«شام» و«الحاج» و«الشاب» و«إيليا»... لكن لمستشفى حمود ميزة تخطّت تقديم العلاج. إذ طُبع المركز، منذ تأسيسه عام 1966، بمحطات المدينة السياسية والأمنية حتى الانتخابات النيابية عام 1992، تاريخ الدخول السياسي لرفيق الحريري الى لبنان.
إنجاز الدكتور غسان حمّود يعود، في قسم كبير منه، إلى والده صبحي سليم حمود. فقد تميّز الأخير ببصمة تجاوزت مهنته كخياط حرفي كان مقصد الميسورين بعدما ذاع صيته، فعادت عليه مهنته بمردود وفير مكّنه من شراء حصص أشقائه من إرث والده في الأراضي التي تملّكها آل حمود بين البوابة الفوقا وسهل الصباغ. وهو قرّر أن يستثمر ماله في تعليم أولاده فؤاد وأمين وغسان: الأولان درسا الهندسة وتخرّجا في الولايات المتحدة، والثالث حاز على منحة من الجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الطب في ألمانيا.
عام 1966 افتتح الدكتور غسان حمّود عيادة في منزل العائلة الذي بناه جده عام 1910 قبل أن يشتريه والده من أشقائه. اللافتة التي خُطّ عليها «غسان حمود أخصّائي في الجراحة والتوليد»، سرعان ما تحوّلت - بعد مدة غير طويلة - الى «مستشفى غسان حمود»، بعدما تمدّدت العيادة عمرانياً في جوار مبنى العائلة. وعلى خطى أطباء المدن الفقيرة، ولا سيما ابن مدينته الدكتور نزيه البزري الذي عُرف بـ«طبيب الفقراء»، خصّص الدكتور حمّود يومين في الأسبوع للمعاينات المجانية.
انتمى حمّود في صباه إلى حركة القوميين العرب، وانخرط شقيقه أمين في العمل السياسي حتى صار عضواً في بلدية صيدا عام 1963 على لائحة معروف سعد. الموقف العروبي للعائلة وموقع المستشفى جعلاه خياراً وحيداً أمام منظمة التحرير الفلسطينية للتعاقد معه، إضافة الى تعاقده مع وكالة «أونروا»، فكان لذلك أثر كبير في تطوير المستشفى الذي عرف «أيام عز» وصار «مستشفى المقاومة الفلسطينية»، كما الدكتور غسان «طبيب المقاومة». وإلى الزخم الفلسطيني، صبّ مرضى الجنوب الذي كان يفتقد للمستشفيات في صيدا، وكذلك فعل مرضى إقليم الخروب ذي الهوى الناصري حينذاك في مدينة معروف سعد.
علاقات حمود الوطيدة بالقيادات الوطنية اللبنانية والفلسطينية حوّلت مكتبه إلى مقر اجتماعات بين مختلف القوى. يستذكر الشيخ ماهر حمود اجتماعاً استضافه المكتب، قبل 15 يوماً من الاجتياح الإسرائيلي في حزيران عام 1982، حضره ياسر عرفات وصلاح خلف (أبو إياد) ومصطفى سعد، لمصالحة التنظيم الشعبي الناصري وفتح بعد اشتباك بين التنظيم و«الأمن الموحّد». كما كان الدكتور حمود «شيخ صلح» ليس بين القوى السياسية في المدينة فحسب، بل بين فعّالياتها المختلفة، كما كان مقصد كثيرين طلباً لدعمه في تحصيلهم العلمي.
اجتياح المدينة في عام 1982 أجبر المستشفى على الإقفال أسبوعاً كاملاً. بعد إعادة فتحه، كان جيش الاحتلال وعملاؤه أضحوا أمراً واقعاً، ونشروا نقاط تمركز قرب المستشفى، لذلك كان على الدكتور غسان حمود خلق معادلة تحمي المستشفى كمركز طبي له دوره الإنساني، لكنه تعرّض لظلم كثيرين اتهموه بـ«محاباة قوى الأمر الواقع»، أو الموافقة على توظيف أشخاص فرضتهم قوى لبنانية كانت على علاقة بالاحتلال كـ«القوات اللبنانية». وتحت الاحتلال، زرع العدو عملاء بين الموظفين لمعرفة تفاصيل عن جرحى عناصر المقاومة الذين يصابون في عمليات عسكرية. ويستذكر أحد قدامى الموظفين بأن مدير المستشفى يومها، سليم مملوك، تمكّن من تهريب أحد الجرحى من المقاومين بعد اكتشاف أن أحد الموظفين أوصل المعلومة إلى العدو.
كان الدكتور حمود «شيخ صلح» ليس بين القوى السياسية في المدينة فحسب، بل بين فعّالياتها المختلفة


فرحة تحرير صيدا في شباط 1985 لم تكتمل. إذ سرعان ما اندلعت أحداث شرق صيدا. حينذاك، كانت علاقة حمود بالرئيس رفيق الحريري قد أخذت شكلاً جديداً. وبعدما اضطرت بهية الحريري لترك منزلها في مجدليون بسبب المعارك، استضافها الدكتور غسان مع عائلتها في المستشفى، بعدما حوّل الطابق الثاني المخصّص للولادة إلى مقر إقامة لآل الحريري. كذلك استضاف رئيس البلدية أحمد الكلش وأبو صالح البربير أحد أغنياء المدينة. وبشكل غير معلن، تحوّل المستشفى إلى مقر لـ«المؤسسة الإسلامية للثقافة والتعليم» (أصبحت في ما بعد «مؤسسة الحريري») التي ركنت سيارات إسعافها في موقفه، وفيه أيضاً كانت توضّب المساعدات السعودية لتوزيعها. في تلك الفترة، صار غسان حمود عضو لجنة الإشراف الإداري المتفرّعة من الإدارة المدنية وعضو مجلس سياسي.
عام 1992، ترشّح حمّود إلى الانتخابات النيابية في وجه مصطفى سعد. واستفاد في خلال حملته الانتخابية من تنوّع موظفيه. إذ أن أكثر من ثلثهم كانوا من قرى الشريط المحتل ممن كان يخصص لهم منامات. كثيرون من أصدقائه ورفاقه هالهم قبوله خوض المعركة في وجه ابن معروف سعد. كما فوجئ هو نفسه بالنتائج التي أظهرت حصوله على عدد قليل من الأصوات... خسر الانتخابات فقرّر الاعتكاف عن العمل السياسي والتفرّغ للمستشفى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا