عرفت البشرية، خلال القرون المنصرمة من تاريخها، أنواعاً عديدة من الجائحات المتعددة الفيروسات والانتشار، كان بعضها من الأكثر فتكاً بالإنسان. إلا أن إدارة الجائحة الحالية، على المستوى العالمي، تبدو مثقلة بأربعة عوامل خطرة:1 – ظهور فوضى ومواقف متناقضة داخل الوسط العلمي، وذلك منذ بداية الجائحة وصولاً إلى اللقاحات المقترحة. وهذا ما يحرف الحقيقة العلمية عن مسارها، ويجعل لهذه المعركة بعداً غير علمي. والدليل يبدو جليّاً في الحجج والآراء غير المسندة إلى الأسس العلمية المعروفة، من احترام المنهجية العلمية والمنشورات البحثية المتخصصة في علم الأوبئة وملاحقتها قانونياً أو إقصائها عن مراكزها، وحتى إيداعها بالقوة في المصحّات العقلية.
2 – تخبّط السياسات الصحية العالمية التي بدأت ارتجالية وغير مبالية بمعظمها (ما عدا الصين التي أعدّت سريعاً خطة صحية متكاملة ألزمت مواطنيها بالتقيّد بها)، ثم انحرفت إلى تغليب مبدأ الربح والخسارة الاقتصادي في احتواء الجائحة، وصولاً إلى سياسة اختيار اللقاح والعمل به، غير آبهة بموقف جزء لا يستهان به من الوسط العلمي والطبي. وقد تعكس سياسة الحجر المنزلي منذ أسابيع عدة عدم وجود سياسة صحية وقائية مسبقة وعدم تخزين المواد والمعدات اللازمة للجائحة، وكذلك سياسة الإغلاق الإجباري لبعض المؤسسات، غير المبنية على المعطيات العلمية؛ فمثلاً أثبتت إحدى الدراسات أن الفيروس أقل وجوداً في المطاعم مقارنة مع أماكن ومؤسسات أخرى بقيت مفتوحة.
3 – تدخّل الإعلام العنيف في التوصيف غير الدقيق علمياً للجائحة، وخَنْقِ الرأي العلمي المعارض وشيطنته، وبالتالي بث الرعب لدى المواطن وخلق وعي جماعي جديد يجعل من الصحة سلعة تدخل في حسابات السوق. وما يزيد من حجم المشكلة الإعلامية هو كمية المعلومات المستقاة من وسائل التواصل الاجتماعي حيث يستطيع أي شخص أن يقول أي شيء عن أي جانب يتعلق بكورونا، لتتحوّل معها دقة المعلومة وصحتها إلى «مزبلة» حقيقية.
4 – دخول مصانع الأدوية الى الوسط العلمي، من وضع اليد على مجلات علمية وتمويلها بما يناسب مصالحها في إنتاج أدويتها ولقاحاتها وتسويقها، وكذلك تمويل أنشطة وأبحاث علمية لبعض الأطباء بما يتناسب وتطلعات سوق العرض والطلب ومراكمة الربح السريع. وهذا ما يخلق تضارباً في المصالح وفساداً داخل دوائر البحث العلمي. وقد مثّل اقتناص عالم المال لفرصة التداعيات الصحية والاقتصادية لهذه الجائحة إنتهاكاً لمبدأ رعاية الدولة للقطاع الصحي وإمعاناً في التحكّم في «سلعة» الصحة بهدف توظيفها أسهماً في البورصات التابعة، والمثال أمامنا: ففي اليوم التالي لإعلان شركة فايزر إنتاج اللقاح، ارتفعت أسهمها في بورصة نيويورك عدة أضعاف.
بالنسبة إلى اللقاحات، فإن تضارب المواقف العلمية إزاءها، وخاصة اللقاح الأميركي فايزر، يكمن في تدخل هذه العوامل الأربعة في النقاش الدائر حالياً حول تقنية اللقاح وفعاليته وتأثيراته الجانبية القريبة والبعيدة المدى, إذ أن اللقاحين الصيني والروسي يعتمدان تقنية معروفة تقوم على إعطاء قسم من الفيروس الحيّ أو الميت للعمل على تحفيز المضادات داخل الجسم. أما لقاح «فايزر» فهو تقنية جديدة لم تخضع للمعايير البحثية المتبعة داخل المختبرات، تقوم على إرسال معلومة جينية (ARNm) من الفيروس نفسه، ليطلب من خلايا الجسم التعرف إليها وتكوين مادة فيروسية خاصة بها داخل البرنامج الجيني (ADN)، من خلالها يستطيع الجسم التعايش مع الفيروس. إلاّ أن هذه التقنية الواعدة ما زالت حالياً، وفي كل المختبرات التي تعمل على البرامج الجينية، في الطور التجريبي، أي في مرحلة التجارب على الحيوانات، ولم ينشر «فايزر» أيّ مقالة علمية لغاية اللحظة تتحدّث عن نتائج تجربته المخبرية، وبالتالي حرق كل مراحل البحث العلمي قبل التطبيق على البشر، بما يدفع إلى التساؤل والحذر من كونه لقاحاً تجريبياً على الإنسان غير مضمون الفعالية مع كل الأخطار اللاحقة.
إلا أن التساؤلات تبدأ من أساس التقنية المتبعة: فهذا الـ ARNm بحاجة إلى مادة مساعدة تدخله إلى داخل الخلية، وهذه المادة هي عبارة عن بروتين موجودة على غلاف الفيروس اصطُلح على تسميتها سبايك (SPIKE)، تساعد على إيصال المعلومة إلى الداخل، وهذا ما يفترض خصوصية في العلاقة بين اللقاح والبروتين. وهذا الأمر لم يُحسم علمياً لحد الآن، كذلك لم تُحسم خصوصية العلاقة بين اللقاح والمتغيّر الفيروسي الجديد. فنحن أمام أنواع عدة من الفيروس، البريطاني والبرازيلي والجنوب أفريقي، تختلف بتكوينها عمّا سبقهت، كما تختلف في العوارض: فالفيروس البريطاني، مثلاً، سريع العدوى والانتشار إلا أنه أقل خطورة (50% من الإصابات في لبنان)، وهو فيروس تغيّر بنسبة 30% من حيث تكوينه، فهل بقي الـ SPIKE كما هو أم تغيّر مع الـ 30%؟
لا جواب علمياً في الوقت الراهن، ما يجعل فعالية اللقاح كلعبة البوكر قائمة على عوامل الصدفة.
أما عن فعالية اللقاح الأميركي وتأثيره، وبسبب عدم المرور بالمراحل التجريبية المفترضة، فإن الجواب عليه في الوسط العلمي يبقى في معرض التوقعات والتمنيات وحتى التخيّلات، وهذا منافٍ للمنطق العلمي الذي يفترض حقيقة علمية واحدة. فليس هناك من منشور علمي يتحدث عمّا ستفعله الـ ARNm داخل البيئة الجينية للخلية (في حال دخلت عن طريق الوسيط: SPIKE). وهنا التساؤلات المبّررة إنسانياً وأخلاقياً، من نوع إمكان حصول خلل أو شذوذ جيني يجعل من الإنسان الملقّح مخلوقاً غريباً عجيباً ينقل برنامجه الجيني المعدّل بفعل هذا التلاعب الكيميائي إلى الأجيال القادمة، أو من نوع تمرّد الـ ARNm داخل الخلية واحتفاظه بكل مكوّنات الفيروس والعمل على إتلاف المناعة الطبيعية للجسم الملقّح.
تبقى الآثار الجانبية لهذا اللقاح؛ فقد أعلن «فايزر» منذ بداية مبيعاته للقاح عدم تحمّله أيّ مسؤولية عن النتائج السلبية، وكل الحكومات التي تعاقدت لشراء اللقاح قبلت بشروط «فايزر». الحكومة الفرنسية طلبت إلى الأطباء تحمّل مسؤولية العوارض السلبية للقاح مرضاهم. ولما جوبهت بالرفض، وضعت المسؤولية على عاتق المريض الملقّح. هذه الآثار الجانبية غير معروفة حالياً (على المدى المتوسط والبعيد) بسبب انعدام التجارب على الحيوان، ما يجعلنا أمام تجارب عمياء تطال عشرات الملايين من البشر.
وأخيراً، وفي حال فعالية اللقاح، فإن الأسئلة المطروحة علمياً تدور حول مدى فعاليته. بمعنى، هل يجب أن نتلقى اللقاح عدة مرات في السنة؟ وفي حال حدوث تغيير في تكوين الفيروس (كما هي الحال مع فيروس الإنفلونزا) هل سنشهد جائحة أخرى بانتظار اللقاح المقبل؟
أما اللقاح الصيني، وبعد خروج أكثر من مئتي منشور علمي من الصين عن تكوين كورونا وتجارب اللقاح، فهو لقاح كلاسيكي بالمعايير العلمية المعروفة، يأخذ جزءاً من الفيروس الميت أو الخامد ويتوجه لكل البروتينات المشكّلة لغلاف الفيروس، ما يجعل فعاليته ثابتة علمية بخلاف اللقاح الأميركي الذي يراهن على واحدة فقط من هذه البروتينات وهي الـ SPIKE.
في الختام، وأمام التوتر الحاصل على المستوى العلمي في مواجهة هذه الجائحة، ومع عدم انتظار المعجزات في العلم أو العصا السحرية التي تقضي على هذا الفيروس، تبقى الوقاية المبنية على الثوابت العلمية أفضل من استراتيجيات اللقاح المقترح: الوقاية خاصة عند الفئة العمرية ما بعد الثمانين سنة أو المصابين بأمراض مزمنة. ويبقى العلاج لعوارض كورونا بين يدي الطبيب (لا شعوذة وسائل التواصل الاجتماعي)، من خلال المراقبة وإعطاء الأدوية التي أثبتت فعاليتها في بداية المرض كالكلوروكين (مئة دراسة علمية إيجابية) أو الإفرمكتين، وتبقى الطبيعة أقوى من المختبرات، وجهاز المناعة الطبيعي اللقاح الأول للجائحة.

* طبيب لبناني أخصائي في جراحة الأعصاب مقيم في فرنسا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا