لم ألتقِ به سوى بضع مرّات منذ سنوات ليطبّبني في عيادته القديمة والمميّزة. منذ اللقاء الأول، لمستُ سريعاً كلّ ما كنتُ أسمعه عن نبله وذكائه وأكثر. جبلٌ من الحبّ والعلم والرقّة والرقيّ والحكمة و«رأس نبع» من العطاء اللامحدود. تاريخٌ في إنسانٍ، كأنه لزمن أو من زمن آخر مضى ويحييه هو بحنّيّته وكرمه وإنسانيّته وتفانيه للناس. كان انطباعي كلّما زرتُه أنّ ذاكرته (مهنّيّاً وشخصيّاً) تقوى مع مرور السنوات والعقود العديدة. بطلٌ في معالجة الأمراض والأوجاع بحسمٍ ودقّة وعناية.قبل التعرّف إليه، لم أكن أعلم، إلّا من كتب التاريخ، بإمكانيّة مقايضة خدمة مهنّيّة (طبّيّة أو غيرها) بالقليل ممّا توفّر لدى طالب الخدمة كمقابل غير ماليّ. لكنّ معلّمنا أثبت لنا بالممارسة الفعليّة أن وسيلة الدفع هذه ما زالت معاصرةً، فكنتُ أرى أكياس خضار أو فاكهة تدخل الى عيادته حتى خلال المعاينات. عيادته كانت مدرسة حياة ومجتمعاً بحدّ ذاته. ووفق فلسفة حكيمنا الإنسانيّ، إذا لم يتسنّ لدى مرضاه حتّى أيّ مقابل متواضع جدّاً، مثل ما تقدّم ذكره، فلا بأس أبداً، بل على العكس أهلاً وسهلاً بهم وبالترحاب المعتاد المشرّف دوماً وبالإبتسامة العريضة المطمئنة. تجسيدٌ لكرامة الإنسان دون أي تمييز. كان ينتقد التخلّف الحضاريّ السائد في العديد من البلاد العربية والمسلمة معتبراً أنه يلزمنا مئات السنوات لكي نتخطّى حالة البؤس الراهنة.
برحيله يودّعنا أحد أعمدة هيكل بيروت ستّ الدنيا، وأحد رموز لبنان الحلو. عزاؤنا يكمن في أن رسالته، التي لطالما جسّدها في مهنته وحياته اليومية وتميّز بها، تطبع كلّ من عرفه أو حتى عاصره. عسى أن تنعكس ذكراه الطيّبة إيجابياً على الأجيال الصاعدة والمقبلة، من أطبّاء أو غير الأطبّاء، لأن نمطه المجيد ضرورة حيويّة ونموذج للشرق الغنيّ بطاقاته وحضاراته وأخلاقه وقِيَمه وفضائله. رحم الله حبيب الشعب وطبيب الفقراء والمستورين العزيز الدكتور عبد الكريم العلايلي. أقترح بتواضع أن تقوم نقابتا الأطبّاء في لبنان بالتقدّم بالطروحات الواجبة ومتابعتها وإجراء كلّ ما يلزم لتدريس أو إطلاع كافّة طالبي الطّبّ أو الأطباء المتدرّجين على منهجه الإنسانيّ المتميّز في التعامل مع مرضاه ومعاونيه ليكون أمثولة خلقيّة ومهنيّة لهم.
المحامي الدكتور غدير العلايلي

* توفّي الطبيب الدكتور عبد الكريم عبد الله العلايلي في ٣٠ كانون الثاني ٢٠٢١ عن عمر ٩٤ عاماً، قضى منها نحو 70 عاماً كطبيب صحة عامة وأمراض نسائيّة، خصوصاً في عيادته الشهيرة في منطقة رأس النبع التي أسّسها حوالي عام ١٩٥٦. وهو عُرف كـ«حكيم بيروت» و«طبيب الفقراء» نظراً لمساعدته الجميع، لا سيما المحتاجين.