أن تتحوّل بكركي إلى قبلة أنظار المسيحيين والقوى السياسية المارونية مجدّداً، وأن تعود إلى لعب دور وطني على مستوى رفيع، وتستقطب قوى سياسية إسلامية، وتحشد مؤيّدين من جمهور عريض حولها، فهذا أمر لا يمكن التقليل من أهميته في هذه المرحلة، استناداً إلى التجارب التاريخية. لكن يجدر أيضاً التوقّف عند بعض المعطيات التي تُرخي بظلها على المستقبل، سواء المتعلق بدور بكركي أو المرتبط بعلاقتها مع القوى السياسية المسيحية والمكوّنات الأخرى.أولاً، من المفيد الإشارة إلى أن حجم الزخم الذي يُعطى لمبادرة بكركي، له سلبياته بقدر إيجابياته. فهناك شخصيات سياسية تسعى منذ أشهر إلى لعب دور فاعل إلى جانب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، بنت له هذا الإطار المتطور تدريجاً سياسياً، محلياً ودولياً. وقد نجحت في مرحلة ما في قلب معطيات الراعي وتوجّهاته السياسية 180 درجة، وسحبت منه موقفاً معارضاً بالتدرّج تجاه حزب الله وتجاه العهد وعلى مستويات مختلفة. وقد تفاقم توتر العلاقة أخيراً خصوصاً مع العهد في موضوع تشكيل الحكومة إلى حدّ غير مسبوق بينهما. اتّجه الراعي نحو موقف متقدم أكثر يتعلق بطرح الحياد ومن ثم التدويل بمعان ملتبسة، حتى أقرب المقرّبين منه يحتارون في شرح حقيقتها. لكن، ورغم شخصانية الراعي وبعض المحيطين به، إلا أن المدافعين عنه يتحدثون بهدوء عن أحقية هذه المطالب بصرف النظر عما يحيط بها. يختصرون الأمر بأن «هناك خشية حقيقية على لبنان وعلى الوجود المسيحي فيه، وهناك خوفاً من الانهيار التام. ودور الكنيسة أن تكون صوتاً في وجهه، ولا يمكن لها بعد اليوم السكوت عما يحصل». وفق ذلك، كان من الطبيعي أن يتصرف الراعي وفق أسلوبه الخاص، ولو لم يقدم طرحاً متكاملاً إن بالنسبة إلى فكرة الحياد التي أسقطها فعلياً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو إلى فكرة طرح القضية اللبنانية دولياً، ولا سيما أن لا إطار قانونياً أو سياسياً للفكرة بحسب اختصاصيين في القانون الدولي، وهي سابقة أن يُطرح هذا الموضوع في بلد لا احتلال فيه ولا يمثل تهديداً لأي دولة أخرى ولا يستوفي الشروط التي يمكن أن تتحقق في دول أخرى. لكن موضوع سلاح حزب الله، هو الثغرة التي يمكن النفاذ منها في مثل هذا الطرح الذي بدأ يلاقي دعماً دبلوماسياً عربياً وغربياً، ولا سيما لجهة الإحاطة الخليجية ببكركي في هذه المرحلة. وإن كانت الشكوك تحوم حول إمكان أن يصبح هذا الطرح قابلاً للتنفيذ.
ثانياً، بعض العارفين بأجواء بكركي يتحدثون عن محاولات الراعي المستمرة لوضع أجندته أمام الفاتيكان كأمر واقع. وهو سبق أن قدّم شرحاً مفصلاً عن الواقع اللبناني في زيارته الأخيرة للفاتيكان. والمدافعون عنه يتحدثون عن أن الكرسي الرسولي لا يمكن إلا أن يتبنّى طروحاته، لأنها في نهاية المطاف تعبر عن تطلعات فئة كبيرة من اللبنانيين، والمسيحيين، وهو أمر لا بد أن يلحظه الفاتيكان ويدفع في اتجاهه خلال اتصالاته مع واشنطن في إدارة الرئيس «الكاثوليكي» جو بايدن، ومع فرنسا بطبيعة الحال. في المقابل، ثمة أجواء تتحدث عن أن الراعي يحاول الإثبات للفاتيكان بأنه رجل المرحلة كنسياً ووطنياً، وللآخرين بأن مبادراته مغطّاة من الكرسي الرسولي، بدءاً من الحياد وصولاً إلى المؤتمر الدولي. علماً بأن الفاتيكان على تقاطع بين أمرين: الودّ المفقود بين البابا فرنسيس والبطريرك الراعي، والاهتمام الفائق بلبنان وسعيه المستمر مع دول فاعلة من أجل الحفاظ على خصوصيته وعلى بقائه وعلى الوجود المسيحي فيه. ومستقبل هذا الطرح يتعلق بجزء أساسي بموقف الفاتيكان، وكيفية الدفع نحو تحقيقه.
جنوح الحضور المؤيّد لها جماهيرياً نحو الغطاء القواتي حصراً، ليس في مصلحة بكركي


ثالثاً، ليس الحشد الشعبي، ورغم أزمة كورونا التي ستفرض تدابير معينة، هو المعيار في ما ستكون عليه خلاصة التجمّع الشعبي حول بكركي. فرغم الملاحظات الكثيرة، حقّق الراعي خرقاً في المشهد السياسي، ولا سيما الماروني. ليس لأن الفكرة أصبحت على الطاولة أو أنها ستتحقق فعلياً، بل لأنها عكست حجم الانقسام الداخلي، والرؤية للكيان ولإصلاح أحواله، وعمّقت الخلاف مع العهد ومع التيار الوطني الحر. ليس صحيحاً أن التيار مستوعب لطروحات الراعي وأنه يقف إلى جانب بكركي، وليس صحيحاً أن الراعي مرتاح لمواقف التيار والعهد. يقال في الاجتماعات المغلقة لدى الطرفين الكثير من الآراء التي تقف عند حدود القطيعة، لكن لا بكركي في وارد إشهار الخلاف العلني، ولا التيار من مصلحته «المارونية» أن يكون على عداء علني مع الراعي. ورغم أن فرحة العونيين بحبريته انتهت، إلا أن تعارضه معه يعني أيضاً بالنسبة إليه انكشافاً أكثر في موقعه السياسي. في المقابل فإن إعادة التجمع السياسي حول بكركي يحمل أيضاً محاذير. فالرئيس سعد الحريري يقف إلى جانبها، وهو كسر حلقة الجمود الحكومي أيضاً بزيارته لها، والقوات ولقاء سيدة الجبل وشخصيات وقوى مسيحية أخرى أيدتها. لكنّ الفرز المتجدّد، إن لم يكن مبنياً على قاعدة سياسية صلبة، كما كانت حال بكركي سابقاً مع تغطية فاتيكانية غير ملتبسة أيام البابا يوحنا بولس الثاني، لا يؤتي ثماره المرجوّة. كذلك فإن جنوح الحضور المؤيد لها جماهيرياً نحو الغطاء القواتي فحسب، ليس في مصلحة بكركي على الإطلاق.
رابعاً، من المفيد ترقّب حجم دعم الرهبانيات لبكركي في موقفها وكيفية التعبير عنه، وخصوصاً تلك التي نسجت علاقات قوية مع العهد والتيار الوطني الحر. كذلك الأمر بالنسبة إلى الدعم الأبرشي الذي سيؤمّنه المطارنة في أبرشيات أساسية، وأُولاها بيروت. فهذه نقطة مهمة، تتعلق برأي بعض الأساقفة في تحرك الراعي ومعارضتهم أو موالاتهم له، وهذا يُترجم إما بِحَثِّ رعاياهم أو كهنتهم على المشاركة أو الحضور شخصياً، تأكيداً لولاء مجلس المطارنة «سياسياً» لرغبة الراعي في طرح القضية اللبنانية دولياً. علماً بأن الحساسيات بدأت تظهر بين أساقفة كانوا يتعاملون مع الراعي على أساس أنه من فريق سياسي، ولم يرق لهم الأمر اليوم حين بدّل وجهته السياسية.
خامساً، العبرة ليست في يوم الالتقاء حول بكركي، بل في اليوم التالي وما بعده، في استثمار ما يمكن استثماره والأخذ به بعيداً نحو خطوة متقدّمة، وليس التمسك حصراً بفكرة الإضاءة على الشرخ الحالي بين توجّهين، أو الانكفاء والتعثر. وهذا ليس في مصلحة موقع بكركي ولا الفكرة التي تدافع عنها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا