منذ ليلة التحركات الشعبية، وثمة كلام يُقال في أوساط سياسية بأن ما جرى أطاح بكل ما شهدته بكركي من تحرّك شعبي وإطلاق مبادرات بشأن المؤتمر الدولي. فما كادت نشوة بكركي تتصاعد تدريجاً، حتى انقلب المشهد في ليلة واحدة من سياسي إلى اقتصادي واجتماعي ومالي، نتيجة ملامسة سعر الدولار رقماً قياسياً جديداً. وهذا التبدل، يطرح أكثر من إشكالية، منها ما يتعلّق ببكركي ومنها ما يتعلق برئاسة الجمهورية، والقاسم المشترك بينهما في تأمين حماية حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة.صحيح أن بكركي قالت خطاباً يلامس لأول مرة حزب الله والعهد، إلّا أن مفعول هذا الخطاب ينتهي أيضاً عند أمرين: الأول هو أن الراعي أخطأ في قدرته على التضييق على العهد، كما حصل عام 2005، لأن البطريرك مارنصرالله بطرس صفير حينها واجه رئيساً معزولاً مسيحياً في ظلّ أكثرية نيابية مسيحية من غير المنتخبين من المسيحيين، ومعه كل المعارضة المسيحية التي تتمثل بالحزبيين وغير الحزبيين. على عكس ما هو حال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون اليوم بصفته واحداً من الزعماء الموارنة الأربعة، وبصفته الرئيس القوي مع كتلة نيابية هي الأكبر ونواب يمثّلون المسيحيين في أكثريتهم. الأمر الثاني هو أن هناك حدوداً معروفة لدى البطريرك ماربشارة بطرس الراعي تتعلق بالوضع الاقتصادي والمالي، الذي لا يقاربه، لأسباب معلومة. لذا لم يأتِ الرد على خطابه بالسياسة، بل من مكان آخر، تحركات شعبية، عفوية كانت أم مدروسة، ومطالبات بإسقاط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في مقابل استدعاء رئيس الجمهورية لسلامة وتوزيعه فحوى توجيهاته له، ومباركته للتحركات الشعبية. وهنا يكمن الفخ الذي نصبته بكركي لنفسها. فتقديم نفسها كطرف منقذ، جعلها في مقدمة الحدث، تتحمل وحدها الثناء كما ستتحمل الفشل في الوصول إلى غايتها، وجعل الأطراف المعارضة لحزب الله وراءها، لا إلى جانبها كما كانت الحال مع قرنة شهوان وصفير. وبالتالي أصبحت هي موضع المطالبة والانتقاد والتصويب عليها، لا الأحزاب السياسية التي حشدت جمهورها دعماً له. ففي فصلها البعد المالي والاقتصادي عن السياسي، في وقت تنهار حياة اللبنانيين استشفائياً واقتصادياً ومالياً، وتغطيتها العلنية للذين أفلسوا اللبنانيين وسرقوا ودائعهم، جعلت من أي مبادرة مهما كان حجم وهوية داعميها محلّياً وعربياً، منقوصة بالكامل. وللتذكير فإن صفير، في عزّ سطوة الرئيس رفيق الحريري المالية والاقتصادية، لم يفوّت فرصة، في موازاة خوضه معركة سياسية بلا هوادة، إلا وانتقد فيها مشروعه الاقتصادي. كذلك فإن المجمع الماروني أفرد حيّزاً مهمّاً لمقاربة علمية لـ«التشوهات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لسياسة الإعمار» و«للدَّين العملاق» نتيجة هذه السياسة، وانتقدت تداعيات السياسة النقدية حينها. وهذا الأمر غاب كلّياً عن اندفاعة بكركي. في حين أن تلاعب حلفائها المصرفيين بسعر الدولار، جعل حركة الشارع مهما قيل عن أنها مفتعلة، مبرّرة، لأنها قادرة على سحب البساط منها، خصوصاً مع توسّع الاحتجاجات في أكثر من ساحة. فبدا خطابها السياسي في واد، وحاجات الناس في واد آخر.
تَلاعُب حلفاء بكركي المصرفيين بسعر الدولار جعل حركة الشارع مبرّرة


أما ردّ بعبدا، فجاء أيضاً مالياً، وإن كان هو الآخر يشكّل دعسة ناقصة. كان الراعي أول من نقل عن عون خلال لقاء بينهما في آذار عام 2018 معلومات عن خطر إفلاس لبنان، بعد أقل من سنة على التجديد لسلامة. ومع اشتداد الحملة على سلامة والمطالبة باستقالته، ولا سيما في مرحلة 17 تشرين وما بعدها، بقيت بكركي وبعبدا تحملان مظلة حمايته. ورغم أن التيار الوطني الحر تذرّع بأن الحريري هو من طلب التجديد لسلامة، إلّا أن أداء بعبدا تجاهه ظلّ من دون شائبة، إلى أن بدأ الحديث عن التدقيق الجنائي وإصرار عون عليه، من دون أي خطوات عملية يُفهم منها كبح جماح سلامة وشركائه. مع تحركات اليومين الماضيين واستدعاء عون لسلامة، اعتبر خصوم رئيس الجمهورية أن ما قام به صلاحية لا يحق له بها، لكن النقاش هنا لا يتعلّق بالصلاحيات التي يحرص خصومه على حصرها برئيس مجلس الوزراء. فخطوة رئيس الجمهورية غير مفهومة بالمعنى العملي، لأن الدولار لم يرتفع فجأة إلى عتبة العشرة آلاف ليرة حتى تستنفر دوائر القصر الجمهوري، ولم تتهاوَ الليرة في لحظات، حتى يستدعي عون حاكم مصرف لبنان لمناقشته. منذ سنة والليرة تنهار، وسلامة يزور بعبدا دورياً، مثله مثل رئيس جمعية المصارف سليم صفير، الذي برّر أسباب ارتفاع الدولار، وكأن التبرير محصور فقط في القفزة إلى مستوى العشرة آلاف ليرة، لا ارتفاعه من 1500 ليرة إلى 9 آلاف ليرة، ومن ثم إلى عشرة آلاف. ومنذ شهور والدولار يقارب التسعة آلاف ليرة، والأكيد أن رئيس الجمهورية لم يتحرك على عجل، لأن الدولار قفز 500 ليرة فقط، فيما يتحول جزء كبير من اللبنانيين إلى متسوّل للإغاثات والمساعدات بعد تدنّي قيمة رواتبهم ومعيشتهم، إلا إذا كانت التقارير التي تُرفع يومياً إليه لم تلحظ هذا الانهيار إلا قبل يومين. ثمة محاولة لإظهار إمساك عون مجدّداً بالأزمة السياسية وتفريغها لحصرها بالشق المالي، وهو هنا يصيب عصفورين بحجر واحد: التصويب على الرئيس المكلف في عدم تشكيل الحكومة سريعاً للجم الانهيار، وهذا ما بدا من حملة الردود والردود المضادة والتصويب مجدداً على مسؤولية الحريري وحده في عرقلة التأليف، وكذلك على بكركي في استعادة عصب المبادرة منها، خصوصاً بعد تحميلها له مسؤولية عرقلة التأليف، ويعطي للوضع المالي المنهار الأفضلية على ما عداه. لكن ما يظهر حتى الآن أن بعبدا وبكركي لن تنجحا في إحداث ثغرة ما في جدار الأزمة، لاختلاف رؤيتهما نحو الحل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا