يعود الاصطفاف السنّي خلف الرئيس سعد الحريري عبر موقف رؤساء الحكومات السابقين من تأييد الرئيس المكلّف سعد الحريري، ليضع الأزمة الحكومية على الطاولة من باب تمسّك نادي رؤساء الحكومات السابقين بالحريري، ودعمه في وجه معرقلي تأليف الحكومة.بالنسبة الى هذا النادي، فإن المعطل الحقيقي هو رئيس الجمهورية ميشال عون ومعه النائب جبران باسيل. لم يقارب هذا النادي حتى الآن أي موقف لحزب الله يفهم منه أنه لا يريد في الوقت الراهن تأليف الحكومة. حتى إن احتمال عدم لقاء وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان بالحريري، جرى التعامل معه كأنه «طعنة في الظهر»، رغم أن الحريري كان قد زار باريس والتقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن مجرد التلميح بأنه مستثنى من برنامج الزيارة، أدى الى استنفار العصبيات السياسية والطائفية لتحقيق «توازن طائفي» في برنامج الزيارة الفرنسية.
المشكلة أن استخدام مواقف رؤساء الحكومات السابقين، عند أي استحقاق يتعلق بتأليف الحكومة، يختلف في الوقت الراهن عمّا كان عليه سابقاً، حين كان الأمر يتعلق بصلاحيات رئيس الحكومة، نظراً الى ارتباط المعضلة الأساسية وراء تعثّر الحكومة بموقف الحريري نفسه. فالحريري ليس المعرقل الوحيد للتأليف، لكنه أحد المعرقلين الأساسيين. هو في هذه النقطة، وخلفه رؤساء الحكومات السابقون، لا يزال منذ تكليفه محكوماً بهاجس الموافقة السعودية عليه. ومع مرور الأشهر، وتأخر الموافقة السعودية، زادت إحراجات الحريري، وسعيه الى الالتفاف داخلياً وخارجياً، من أجل كسب الوقت ونيل الرضى الملكي. فالحريري لا يستطيع تكرار ما حصل عند إنجاز التسوية الرئاسية التي غضّت فيها الرياض الطرف عمّا حصل في لبنان من دون إعطائه موافقتها، وكذلك فعلت واشنطن. لكن توقيت الحدث حينها، عند تقاطع الانتخابات الأميركية، ورهان بعض مؤيّدي التسوية على نجاح المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، بدلاً من المرشح الجمهوري دونالد ترامب، جعل التسوية تمرّ مروراً عابراً للجميع. اليوم تختلف الظروف تماماً، والسعودية في الآونة الأخيرة تنتهج نهجاً إقليمياً مغايراً، حتى بالنسبة الى طهران، وهي حددت أولوياتها في كل دول المنطقة، ولبنان ليس من ضمن هذه الأولويات. عدا عن أن الحوار الأميركي الإيراني حول الاتفاق النووي تغيّر إطاره منذ أن بدأ قبل سنوات. فظروف الاتفاق لم تبقَ هي نفسها ولا الإدارة الاميركية، ولا إيران المقبلة على انتخابات رئاسية.
الحريري ليس المعرقل الوحيد للتأليف، لكنه أحد المعرقلين الأساسيين


كل ذلك يجعل الحريري واقفاً موقفاً حساساً في إقدامه على خطوات غير محسوبة. فالتلويح بالاعتذار، ليس الأول، لكنه أحياناً يأتي بمفاعيل إيجابية، وفي أحيان أخرى لا يرتدّ إلّا سلباً. وموقف رؤساء الحكومات السابقين، يفترض أن يكون قد أخذ في الحسبان أيضاً موقف السعودية، التي لا تنتظر زيارة الوزير الفرنسي لتبني على الشيء مقتضاه. حتى لو خطا الحريري خطوة يفترض أنها تصبّ في الاتجاهات السعودية، فإن الخشية من أن يكون قد تأخّر جداً في القيام بها، ولا سيما أن الحريري يقف متريّثاً في انتظار جلاء أكثر وضوحاً، ليس لموقف الرياض، بل لموقف حزب الله. وهو يبدو متلمساً أكثر لهذا الموقف، بعدما علا أكثر سقف الضغط من جانب العهد والتيار الوطني الحرّ عليه لتقديم تشكيلته الحكومية، علماً بأنه حتى الآن، لم يتخلّ الحزب عن الحريري. فغطاء «الحريرية» السنّية لا يزال فوق الحريري، وأي مسّ به سينعكس في الشارع السنّي، مهما ضعف تمثيل الحريري، وتراجعت شعبيته. الحزب يعرف أن المسّ بالرئيس المكلّف سيثير عصبيّات، هو وغيره في غنى عنها. وهو حتى الآن، لا يزال متمسكاً به، في مقابل عدم استعجاله إنضاج الطبخة الحكومية. إلا أن الحريري يظهر كأنه يحتاج الى دفعة أكثر وضوحاً في لجم اندفاعة العهد وباسيل، مقابل دفع الحزب بوضوح أكثر لتحييد مسار التأليف. فالوقت يدهم الجميع، ليس بمعنى انتظار الحوارات الإقليمية ونتائج الرسائل الفرنسية، لأن موقف السعودية والحزب لا يزال هو نفسه منذ تكليف الحريري. بل لأن الاستحقاقات الداخلية أكثر فاعلية في الدفع نحو اتخاذ خيارات مدروسة في المرحلة الراهنة. فتراكم الأزمات المالية والاقتصادية وتسجيل مزيد من الانهيارات الاجتماعية، يمكن أن يفتحا باباً لاحتمال إحداث صدمات سياسية. إذ إن استحقاق رفع الدعم الذي بات يُصوَّر كأنّه لا مفرّ منه، يمكن أن يكون إحدى الذرائع التي تحكم الاستحقاق الحكومي. فأيّ اتجاه من هذا النوع سيرتدّ على الحكومة الجديدة بكل أثقاله وسلبياته. فهل يمكن للحريري أن يتحمّل تبعات هذا الاستحقاق عند أول وصوله، إذا ما أنتجت الحكومة سريعاً؟ وهل يمكن لحكومة يانعة أن تصطدم أول وصولها باستحقاقات شعبية على وقع رفع الدعم، يمكن أن تعيد الحريري الى المواجهة مع الناس، وهي الآتية أساساً لتخوض جملة تحدّيات اقتصادية ومالية غير شعبية بالمطلق، فكيف إذا أتت من دون تغطية خارجية كاملة تضمن صمود رئيسها فلا يكرر تجربة استقالته الماضية؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا