لم تكن «زلة» بلا قيمة تلك التي وردت على صفحات الجيش اللبناني على مواقع التواصل الاجتماعي، يوم السبت الفائت، وسرعان ما أزيلت، وجاء فيها: «تمرين تكتي في منطقة جرد العاقورة يحاكي «مهاجمة عناصر مسلحة متمركزة في مركزي قوسايا ودير الغزال» نفذه عناصر من فوج التدخل السادس واستخدمت خلاله الذخائر الحية والخلبية».الجيش يتمرّن لمهاجمة مواقع للجبهة الشعبية - القيادة العامة، واقعة في السلسلة الشرقية لجبال لبنان. المسألة ليست تفصيلاً، ولا هي حدث منفصل عن النهج السياسي العام المعتمد في قيادة الجيش، منذ عام 2005، وتعمّق في عهد القائد الحالي العماد جوزف عون. عامذاك، وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، رمت السلطة السياسية الجيش في الحضن الأميركي. الحضن الأميركي حصراً. تعمّدت سلطة 14 آذار القيام بذلك، ومنعت الجيش من التعاون الجدّي والمجدي مع أي دولة لا ترضى عنها الولايات المتحدة الأميركية. خير دليل على ذلك ما جرى في مسألة الهِبة الروسية عام 2008، عندما قرر فلاديمير بوتين منح لبنان، مجاناً، طائرات حربية مقاتلة من طراز ميغ 29، ودبابات ومدافع، مع أسلحة أخرى وذخائرها كافة. سريعاً، تدخّل الأميركيون لمنع وصول هذه الهبة إلى لبنان؛ فواشنطن ترى أن دخول دولة من خارج دائرة حلفائها على خط دعم الجيش يعني نفوذاً يمكن أن ينافس نفوذها، ولو بنسبة ضئيلة. امتثل أهل السياسة في بيروت للأوامر الأميركية، وأحبطوا العرض الروسي. الذريعة أمّنتها قيادة الجيش، من خلال القول إنه عاجز، لوجستياً ومالياً، عن اقتناء طائرات ميغ 29. وافقت موسكو على استبدال المقاتلات النفاثة بمروحيات، فرُفِض عرضها أيضاً. قيادة الجيش، في عهد العماد جان قهوجي، تناغمت مع السلطة السياسية التي قررت منع أحد، من خارج الحلف الأميركي، من تقديم أي مساعدة ذات قيمة للعسكر اللبناني.
وعلى مدى سنوات، لم تُقرّ الدولة اللبنانية تعديل عبارة في اتفاقية التعاون العسكري بين لبنان وروسيا. ذرائع متعددة ساقتها قيادة الجيش والقوى السياسية، تقاطعت جميعها عند نتيجة واحدة: التعاون العسكري الحقيقي، لا الشكلي، بين الجيش وروسيا ممنوع، بقرار أميركي امتثلت له السلطة السياسية، والتزمت به قيادة الجيش، سواء في عهد جان قهوجي، أم في ولاية القائد الحالي.
القوى السياسية انقسمت إلى ثلاثة أقسام:
الاول، هو فريق 14 آذار، المؤيّد تماماً لرمي الجيش في الحضن الأميركي.
الثاني، هو فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي لم يبذل أي جهد يُذكر لتنويع مصادر تسليح الجيش وتدريبه. كان هذا الفريق يرى في العلاقة بين الأميركيين والجيش باباً للحوار مع واشنطن.
الثالث، حزب الله وفريق 8 آذار، الذي تصرّف كما لو أن المسألة لا تعنيه: «نبتعد عن كل ما يمكن أن يؤثر على صلتنا بالجيش سلباً، كما عن كل ما يمكن أن يستخدمه خصومنا لاتهامنا بالهيمنة على الجيش أو بمنع وصول مساعدات إليه».
في عهد جوزف عون، باتت العلاقة مع الأميركيين أكثر «حميمية» من ذي قبل. يعبّر عنها «الجنرال» في مواقف كلامية وأخرى عملية. منذ ما بعد وصوله إلى «عرش اليرزة»، بدأ جوزف عون خطة عمل لتخفيف السلاح غير الغربي بين الجنود. تعامل معه الأميركيون بصورة يمكنها أن تجعل «البخار يرتفع» في رأس أيّ سياسيّ، فكيف الحال بعسكريّ آتٍ من الميدان إلى حيث السلطة والنفوذ والحظوة والكلمة التي لا تُرَد والصورة التي لا تُخدَش؟
صورة الجيش يصيبها بضرر كبير وجودُ الحليف الأوثق والأول لـ«إسرائيل» في «الكادر» بشكل شبه دائم


في زياراته للولايات المتحدة الأميركية، كان قائد الجيش يُعامَل كزائر فوق العادة. وفي بيروت، نسجت السفارة الأميركية علاقة خاصة ومميزة بعدد من المحيطين بالعماد، وتحديداً بأولئك الذين يثق بهم (وبينهم بعض الذين خرجوا من السلك بالتقاعد، لكنهم ظلّوا في مركز القرار بعقود تعاون أو بـ«المَونة»). شيئاً فشيئاً، صارت «حصة» عوكر في اليرزة تزداد، فيما علاقة اليرزة ببعبدا تتراجع، وصولاً إلى ما بعد 17 تشرين الاول 2019، يوم باتت الشخصيات التي تشكّل «وعاء القرار» في بعبدا ترى في جوزف عون شخصاً يقف في جبهة الخصوم، لا على الحياد حتى.
قائد الجيش لم يبذل أي جهد لنفي التهمة الأميركية عنه. خلافاً لذلك، قام بكل ما يلزم من أجل إثباتها. كلامه بحق السفيرة السابقة إليزابيت ريتشارد لا يمكن أن يصدر عن مسؤول في أي دولة في العالم بحق سفير دولة أجنبية. اتهمها بأنها أينما ذهبت، فهي تحمل في قلبها حب الجيش اللبناني وهمّه. لم يبالغ قائدُ الجيش في قوله ذاك، رغم أن سفير أيّ دولة سيُطرد حتماً من عمله في حال رأت حكومته أنه يحمل همّ الدولة التي يعمل فيها. هو لم يبالغ، إذ إنه كان يصف نظرته إلى السفيرة الاميركية لا واقع حالها. هي التي وصلت دالتها على اليرزة إلى حدّ «منح الإذن» بفتح الطرقات بعد 17 تشرين 2019، عندما استشعرت السفارة خطر بقاء الطرق مقفلة في «المناطق المسيحية» حصراً. أما قبل ذلك، فكانت في اتصالاتها اليومية مع «مكتب القائد» تحذّر من «أي مس بالمتظاهرين السلميين».
مع خليفة ريتشارد، دوروثي شيا، لم تكن «الهرقة» أقل مما كانت مع سابقتها. من دون أدنى تفكير في العواقب المعنوية، تنشر قيادة الجيش صوراً للسفيرة شيا في حفل تخريج دورة تدريب قوات خاصة (لبنانية طبعاً)، وصوراً أخرى لها من قلب غرفة عمليات أثناء تدريبات مشتركة مع الجيشين الأردني والأميركي. بات وجود السفيرة الأميركية في اليرزة طاغياً إلى حدّ أن أحد المتابعين كتب ممازحاً بأنها «تداوِم في اليرزة أكثر مما تداوم في عوكر».
العلاقة مع الأميركيين وحلفائهم لا تقتصر على الصورة. أعمالهم على الحدود اللبنانية - السورية، وزياراتهم إليها (آخرها جولة قائد ​القيادة​ الوسطى في ​الجيش الأميركي​​ الجنرال كينيث ماكنزي على الحدود في آذار الفائت)، تكشف أن لبنان إنما ينفّذ هناك ما يريده الأميركيون (البريطانيون يلعبون دور التابع للولايات المتحدة الأميركية). ومشروع الأميركيين هو السيطرة على الحدود، بعد تحويل الجيش اللبناني إلى «قوات خاصة» حصراً، تؤدي دور «حرس حدود» (قوات هي أقرب إلى الشرطة منها إلى الجيش). التدريبات التي يعلن الجيش إجراءها لقواته تبدو محصورة أصلاً في ما يريده الأميركيون منه: محاربة الإرهاب. واللافت هنا أن المطبّلين لـ«القائد الملهم» يريدون منع أيّ لبناني من الشعور بالاستفزاز من واقع أن الجزء الأكبر من جنود الجيش وضباطه لا يتلقون تدريبات وسلاحاً سوى من أكثر الدول دعماً للعدو الإسرائيلي، ويُراد أن يُقال إن هذا الأمر لن يؤثر على عقيدة المؤسسة العسكرية. في نيسان الماضي، كانت مسألة «تأثير تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية على البيئة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط»، كانت على طاولة النقاش في كلية الأركان في الجيش اللبناني. الموضوع طبيعيّ، لا بل واجب. لكن ما هو غير طبيعي أن يوكَل أمر هذا البحث إلى مركز «NESA» (مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية) التابع لوزارة الدفاع الأميركية. وإثارة هذه المسألة ليست بقصد التشكيك في كلية الأركان، ولا في طلابها، الذين يجيدون الدفاع عن وجهة نظرهم في حلقات بحثية مشابهة. لكن الهدف هو الإضاءة على واقع أن ضباط الجيش وجنوده جُعِلوا، عمداً، عرضة لتلقّي وجهة النظر المعادية (بواسطة الأميركيين) بصورة شبه حصرية.
في هذا السياق تحديداً، أتى خبر السبت الماضي، ليكشف عن خطط لدى الجيش لمقاتلة قوات الجبهة الشعبية في قوسايا ودير الغزال (كما ليكشف أيضاً عن جزء من أهداف جولة ماكنزي الذي قال الإعلام إنه تفقّد بئراً موّلت السفارة الأميركية حَفرها في إحدى قرى المنطقة غير البعيدة من قوسايا). وشأنٌ بهذه الخطورة، ينبغي أن تدرك قيادة الجيش أنه يعرّض الأمن الإقليمي للخطر، لا الأمن اللبناني وحسب. ربما من الطبيعي أيضاً أن تعد قيادة الجيش جنودها لـ«الاحتمالات كافة»، لكن المستغرب أن تتصرّف قيادة الجيش مع الجبهة الشعبية - القيادة العامة، كجسم معادٍ، فيما هي جهة حليفة للبنان في مواجهة العدو، وشنُّ معركة ضدها يعني «لعباً بالنار» على أقل تقدير. والأكثر مدعاةً للاستغراب أن تُصبح مصادر التهديد في نظر الجيش محصورة بالحدود الشرقية، وبـ«الإرهاب». فعلى سبيل المثال لا الحصر، تكاد تغيب عن برنامج عمل اليرزة إعلانات عن تدريب الجنود والضباط على التصدي للإنزالات الإسرائيلية. بالتأكيد، ليس المطلوب من الجيش - الذي ارتضت قيادته مع السلطة السياسية، ألا يرى في نفسه قدرة على حيازة مقاتلات ميغ 29 والاكتفاء بالسيسنا «ذات المروحة» التي اختارها له الجيش الأميركي - أن يعدّ خططاً كبرى لمواجهة جميع أنواع المعارك مع العدو. لكن على الأقل، وفي إطار مهامه الداخلية التي ارتضاها لنفسه، ينبغي أن يضع جنوده وضباطه في حالة جاهزية لمواجهة اعتداءات يمكن أن يقوم بها جيش الاحتلال، كتنفيذ إنزالات بحرية أو جوية. وفي حال كانت هذه التدريبات تُجرى دورياً، لا يُعرف سبب عدم الإعلان عنها (التذرّع بالسرية نكتة سمجة) كجزء من تعميق ثقة اللبنانيين، كل اللبنانيين، بجيشهم.
لكن، في واقع الحال، لا يهتم «مكتب القائد» بنظرة عموم المواطنين. يكفيه ما يؤمّن استمرار العماد جوزف عون مرشحاً رئاسياً. لا تعنيه صورة المؤسسة العسكرية التي يصيبها بضرر كبير وجودُ الحليف الأوثق والأول لـ«إسرائيل» في «الكادر» بشكل شبه دائم. يكتفي القائد بكتّاب وإعلاميين وسياسيين ووسائل إعلام يصوّرون كل نقد لأداء جوزف عون «حملةً ممنهجة»، ولو لم يصدر هذا النقد سوى عن عدد محدود من الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي، وعددٍ أقل من الإعلاميين (لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة)، ووسيلة إعلامية وحيدة توجّه من حينٍ إلى آخر انتقادات «طفيفة» للقائد وأفراد في مكتبه.
لا يُحسَد الجيش على موقفه. لا سلطة سياسية يستند إليها لمواجهة الرغبة الأميركية الدائمة في بسط النفوذ والهيمنة، ولا هو وُفِّق بقائد يجيد الفصل بين حالة «القوة» كمرشّح رئاسي لا يريد إغضاب واشنطن، وبين واقع «الفعل» بأنه قائد جيش لبنان، كل لبنان.