على مدار عقود من الظلم الذي ألحقه الاحتلال بالشعب العربي الفلسطيني، كانت سياسة الاعتقال والحبس من أكثر السياسات التي حاول المحتل من خلالها القضاء على كل نفس يطالب بالحريّة، حتّى غدت فلسطين بأكملها في الأسر. فغزّة منعزلة فردياً عن بقية مدن فلسطين تحت حصار هو أشبه بزنزانة تضم آلاف الفلسطينيين المقهورين والمحرومين من أبسط حقوقهم. فيما يعيش أهالي الضفة في سجن كبير تقيّد فيه حركتهم وينتهك فيه السجان حياتهم بكل معانيها. أمّا فلسطينيو الداخل فهم مسجونون بأجسادهم؛ ممنوعون من التعبير عن انتمائهم، ومميّز ضدهم بناء على هويتهم العربية الفلسطينية. ورغم مرارة هذا الواقع، إلّا أن في السجن الكبير سجوناً أصغر تضيق بها الحياة أكثر كلما قرّر المحتل أن يزرع في الناس الخوف والرضوخ

أقام المحتل مباني ومنشآت لسجون يمارس فيها أقذر الأفعال في محاولة لسلب إنسانية الأسير وإفراغه من الأمل والعاطفة. من بين هذه السجون «الدامون»، وهو السجن الخاص بالنساء الفلسطينيات. في ذهن كل فلسطينية صورة عن هذا المكان؛ عن بشاعة جدرانه، عن كراسيه المستخدمة في التعذيب، عن خبث ولؤم سجانه، وبرودة غرف التحقيق.
مارس الاحتلال سياسة الاعتقال بحق النساء الفلسطينيات منذ عام 1967، فكانت فاطمة برناوي من القدس أول أسيرة يتم اعتقالها والحكم عليها بالسجن المؤبد. ومنذذاك، تعدّت سلطات المحتل على النساء، أمهات وبنات وقاصرات، واعتقلت أكثر من 16000 فلسطينية على مدى سنوات الاحتلال، من بينهن 3000 فلسطينية اعتُقلن في الانتفاضة الأولى، و900 خلال الانتفاضة الثانية، وعادت سياسة الاعتقال بحق النساء لتتصاعد بشكل ملحوظ منذ عام 2015، إذ اعتُقلت نحو ألف امرأة خلال الأعوام اللاحقة.

واقع الأسيرات اليوم
حتى اليوم، هناك حوالي 32 فلسطينية في سجن الدامون، تعد الأسيرة ميسون موسى أقدمهن. إذ تم اعتقالها عام 2015 وحكم عليها بالسجن 15 عاما. أمّا الأسيرات الأخريات فهن من مختلف الأعمار، ومن بينهن قاصر هي نفوذ حمّاد، و10 أمهات، يعانين جميعاً سوء المعاملة على يد إدارة السجون التي تحرمهن من زيارات مفتوحة يلتقين خلالها بأطفالهن، وتستخدم أمومتهن ضدهن كوسيلة ضغط وتعذيب نفسي. ولعلّ أحدث القصص وجعاً قصّة الأسيرة خالدة جرّار التي توفيت ابنتها قبل خروجها من السجن بأشهر قليلة، وحرمها الاحتلال من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليها أو المشاركة في جنازتها.
أمّا أكثرال قصص وجعاً، فهي قصّة الأسيرة إسراء جعابيص التي بدأت في الآونة الأخيرة حملات على شبكات التواصل الاجتماعي حملة للتعريف بها وبقضيتها والمطالبة بالإفراج عنها، أو على الأقل علاجها مما أصابها من تشوهات وأوجاع لا تزال ترافقها حتى اليوم، بعد أن فجّر رصاص الاحتلال عبوة الغاز التي كانت داخل سيارتها ما أدى إلى إشعال النيران بها وتشويه وجهها وأيديها. وحعابيص أم مقدسية كانت تنقل أغراضاً إلى بيتها الجديد عندما تعطلت سيارتها وانفجر بالون الهواء الخاص بمركبتها قرب حاجز إسرائيلي. بعد الحادث، وُجهت اليها تهمة الشروع بالقتل والتحريض كونها تمجّد الشهداء على مواقع التواصل الاجتماعي. حكاية اسراء هي اختصار لحكاية ظلم الاحتلال وقهره للنساء واعتقالهن انتقاماً، وحرمانهن من العلاج المناسب.

أساليب مختلفة والظلم واحد
تنتهك دولة الاحتلال، بشكل واضح، كل القوانين الدولية الخاصة بحقوق المعتقلين المحميين من المدنيين، وبمن تتوافر شروط تسميتهم بأسرى الحرب من مقاتلين ومدنيين على حد سواء. إضافة إلى قهر السجن والسجان، تتعرض الأسيرات الفلسطينيات لأشكال مختلفة من التّعذيب، فيتم اعتقالهن فجراً ونقلهن في ما يصطلح على تسميتها بـ «البوسطة»، في رحلة عذاب طويلة. ولدى وصولهن إلى مراكز التوقيف والتحقيق، تنزل بهن أقذر وسائل التعذيب الجسدي والنفسي. فإضافة إلى محاولة استفزاز عاطفتهن وابتزازهن بقصص عن حياتهن الشخصية، ومحاولة كسر العزيمة داخلهن، إلّا أنّ للتعذيب الجسدي أيضاً نصيباً في هذا القهر. فقد عانت الأسيرات مما يسمّى «شبح الموزة»، وهي وسيلة تعذيب يتم خلالها ربط جسد الأسيرة بكرسي بطريقة تشبه التفاف الموزة على بطن الكرسي، وهي من أكثر الوسائل تعذيباً إذ تبقى الأسيرة في هذه الوضعية لساعات ما يؤدي إلى أوجاع مزمنة في الظهرترافقها طيلة حياتها. وقد تمتد فترات التحقيق والتعذيب الملاحق لها وقتاً طويلاً من دون محاكمة، خصوصاً في حالات الاعتقال الإداري الذي تستخدمه دولة الاحتلال في مواجهة أبناء وبنات الضفة، فور شعور أي من عناصر المخابرات باحتمال وجود خطر أمني، وعليه يتم اعتقال الأسيرات بشكل عشوائي من دون تقديمهن للمحاكمة بحجة سرية الملف وعدم إمكانية تقديم أي أدلة، وقد تمكث الأسيرات المعتقلات إدارياً في السجون أشهراً وأعواماً من دون محاكمة أو دراية بطبيعة الملف أو «التهمة» المنسوبة اليهن.
لدى وصول المعتقلات إلى مراكز التحقيق، تنزل بهن أقذر وسائل التعذيب الجسدي والنفسي إضافة إلى استفزاز عاطفتهن وابتزازهن


خلال فترة السجن، تواجه الأسيرات تضييقا وعقوبات مختلفة، أشدها قسوة عقوبة العزل الانفرادي، وتتمثل في عزل الأسيرة في غرفة صغيرة مطلية باللون الأسود أو الرمادي بالكاد تتسع لسرير أو «برش» للنوم. وبإضاءة قوية ليلاً نهاراً، ولا تضم هذه الغرف حمامات إلا في ما ندر، وفيها كاميرات مراقبة مع جولات تفتيش تتعّمد حرمان الأسيرة من النوم أو الراحة. أمّا عن الحقوق التي يفترض أن يتميّزن بها كنساء، كحقّهن بالخصوصية وتوفير بيئة صحية تتلاءم وخصوصية احتياجات المرأة من ملابس وفوط صحية، فتنتهك إدارة السجون كل ذلك، إضافة إلى تعرض الأسيرات في غرف التحقيق لشتائم وإيحاءات قذرة من المحققين.

النيل من العزيمة
من الواضح أن عملية الأسر لا تهدف إلى النيل من الأسيرة وحدها فحسب، بل لتنال من عزيمة كل فلسطينية تفكر بتحدّي الظروف من حولها وأن تصرخ لا في وجه المحتل. ويلاحظ في الآونة الأخيرة أن الاعتقال الإداري يحدث في أوساط جامعية ويمس فتيات في بداية مسيرتهن التعليمية أو على وشك التخرج وبدء حياتهن العملية، وفي ذلك انتهاك واضح لحق الفلسطينيات في التعليم، ولكنه أيضاً محاولة للتخويف وزرع الخضوع في الروح الجماعية والنفس المقاوم الموجود في الجامعات الحاضنة للنضال الفلسطيني. وكما عادة الفلسطينيات أن يتحلّين بالمقاومة، نجد أنّ في تجربة الأسر إحياء لمفاهيم إنسانية ووطنية ترويها الأسيرات في نصوص جمالية تعبر عن معنى مفاده «إن حبستوا جسم البطل محبستوش الروح .. روحه بحجم الجبل تحمل عنا الجروح» .



حماية المعتقلين بحسب القانون الدولي

المعتقلون
توضح اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949، في مادّتها الرابعة أن الأشخاص موضع الحماية في هذه الاتفاقية هم «أولئك الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما وبأي شكل كان، في حالة قيام نزاع أو احتلال، تحت سلطة طرف في النزاع ليسوا من رعاياه أو دولة احتلال ليسوا من رعاياها». وتنص في المادة 27 على أنّ لهؤلاء - الذين وصفتهم بـ «الأشخاص المحميين» - «في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم. ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية، وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير».

المعتقلون جنائياً
في الحالات التي يقوم بها الأشخاص المحميون بممارسة أفعال جرمية تخالف قانون الاحتلال، يمكن للاحتلال إعمال قانونه بحسب المادة 64 من اتفاقية جنيف الرابعة. وعليه يجوز لدولة الاحتلال أن تقوم بتقديم المتهمين بالقيام بهذه الجرائم من الأشخاص المحميين للمحاكمات العسكرية غير السياسية التي تم تشكيلها قانونياً، شريطة أن تعقد هذه المحاكمات وما يتبعها من استئنافات في البلد المحتل، بحسب ما جاء في المادة 66 من الاتفاقية نفسها. ويجب أن تكون العقوبة في هذه الحالات متناسبة مع المخالفة أو الجريمة التي ارتكبت، كما أضافت المادة 68 من الاتفاقية أن يكون الاعتقال أو الحبس هو الاجراء الوحيد السالب للحرية بحق الأشخاص المحميين.
ومن الأحكام العامة في معاملة المعتقلين التي توجبها اتفاقية جنيف الرابعة:
- يحتفظ المدنيون بكامل أهليتهم المدنية ويمارسون الحقوق المترتبة على ذلك بقدر ما تسمح به حالة الاعتقال.
- إعالتهم مجاناً وتوفير الرعاية الطبية التي تتطلبها حالتهم الصحية.
- يُجمع أفراد العائلة الواحدة، خصوصاً الوالدين والأطفال، معاً في معتقل واحد طوال مدة الاعتقال.
وتنص الاتفاقية على الحقوق الأساسية المتعلقة بالغذاء والملبس والحماية من التعذيب والاعتداء وأخطار الحرب إضافة إلى بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
أمّا عن الحماية الخاصة بالمعتقلين جنائياً، فهي تشمل كل ما ذكر كحد أدنى، إضافة إلى اشتراط فصلهم وتمييزهم عن أسرى الحرب والمعتقلين أمنياً، فضلاً عما سبق ذكره بأن العقوبة يجب أن تتناسب والجرم المعقود.

المعتقلون سياسياً/أمنياً
تبيح المادة 78 من اتفاقية جنيف الرابعة، وبشكل واضح، اعتقال الاحتلال أشخاصاً محميين لأسباب أمنية، وتحيل القواعد والاجراءات القانونية المتبعة خلال الاعتقال إلى قوانين وقواعد دولة الاحتلال. واشترطت في ذلك أن تكفل هذه القواعد والاجراءات حق المعتقلين في الاستئناف، والسرعة في البت، وإعادة النظر في القرارات بشكل دوري، وإذا أمكن أن يعاد النظر فيها كل ستة شهور عن طريق محكمة/جهاز مختص تشكّلة دولة الاحتلال.