آخر مرة كانت ثمة معركة في انتخابات رئاسة مجلس النواب، حدثت في منازلة ضارية بين الرئيسين كامل الاسعد وحسين الحسيني، فاز فيها الثاني في 16 تشرين الاول 1984، في مرحلة انتقال البلاد آنذاك من النزاع مع سوريا الى موالاتها. قبلها، الاقرب، كانت في 20 تشرين الاول 1970 بين الرئيسين النسيبين صبري حمادة والاسعد، في مرحلة انقلبت كذلك احوال البلاد من الشهابية الى خصومها. خسر الاول صهر الثاني. منذ ما بعد اتفاق الطائف، لم يشهد مجلس النواب مرة معركة انتخابية ما خلا ما كاد ان يكون في 20 تشرين الاول 1992 بين الحسيني والرئيس نبيه برّي، قبل ان تُحسم في الايام القليلة التي سبقتها، فخاض رئيس حركة امل انتخابات رئاسة المجلس مرشحاً وحيداً. مذذاك، الى اليوم، لم يظهر اي مرشح شيعي منافس له. لم تنشأ مرة مشكلة في نصاب الانعقاد ولا في نصاب التصويت، فترجحت ارقام الدورات الست السابقة ما بين 90 صوتاً و124 صوتاً.

في الاستحقاق الجديد، الثلثاء، فوز برّي بولاية سابعة امر محقق. المواجهة التي يخوضها ضده خصومه على اصوات الاقتراع له. لا مشكلة في نصاب الانعقاد العادي، لأن الجميع سيحضر افتتاح العقد التشريعي الجديد. الانطباع الشائع ان المعركة على نيابة رئاسة المجلس. الرائج ايضاً ان نائب الرئيس يقتضي ان يكون على صورة الرئيس، يشبهه ويشترك معه في كل ما يمت بصلة الى دوريهما. كانت تلك تجربة ايلي فرزلي مع برّي طوال 17 عاماً. ما بين عامي 2005 و2018 بانتخاب فريد مكاري اختلف الرئيس ونائبه. كلٌ في موقع مناوىء للآخر. قبلهما اقرب نموذج الى علاقة تشبه ما بين برّي وفرزلي، ما كان بين الاسعد ونائبه منير ابو فاضل. اما ما بين برّي ومكاري، فهو ما رافق الى حد علاقة الحسيني بنائبه البير مخيبر، نسيج نفسه الفريد، لا يشبه احداً ولا احد يشبهه.
بيد ان جلسة الثلثاء لن تنتهي في موعدها. بل ينتظر ان تنتقل تداعياتها ـ اياً تكن الاصوات التي سيحوزها الرئيس الفائز واياً يكن نائبه ـ الى ولاية البرلمان برمتها كي تتمدد الى الاستشارات النيابية الملزمة، ثم الى ما هو ادهى: معضلة انتخابات الجمهورية. اكثر من اي وقت مضى، وذلك ما لم يُثَر مرة منذ عام 1992، من شأن توازن القوى في برلمان جديد يفتقر الى اكثرية مرجحة فيه، ويفتقر خصوصاً الى كتلة واحدة متراصة متوافقة على صورة ما كان بين عامي 1992 و2005، ثم ما صار عليه بعدذاك الى الآن بتواطؤ سنّي ـ شيعي، ان يضعه في مهب الانقسام وتعطيل دوره.
لا احد قادراً على فرض ارادته. ثلاث اقليات كلٌ منها لا تقل وحشية وجموحاً عن الاخرى للسيطرة على القرار فيه. بذلك يُفهَم اولاً معنى الاهتمام، ليس فحسب بانتخاب رئيس المجلس ما دام لا مرشح الا برّي وفوزه منجز، بل ايضاً بانتخاب نائبه بدلالة رمزية، هي اصرار خصوم رئيس المجلس على مشاركته ـ من موقع الند وليس الحليف ـ في كل قرار يرتبط بادارة السلطة الاجرائية من خلال هيئة المكتب. وتُفهَم ثانياً الرغبة في خفض التصويت لبرّي كي يُصوَّر انتخابه ضعيفاً للمرة الاولى في مساره الطويل. ويُفهَم ثالثاً مغزى التشبث بالمواجهة على نيابة رئاسة المجلس. قد يؤدي ذلك ـ ان لم تقع المفاجأة وتصعد الى فوق الطاولة ما يفترض انه دائر تحتها ـ الى انتخاب الرجلين من الدورة الثالثة، غير المسبوقة منذ اتفاق الطائف.
اما ما يرافق الاستحقاق الوشيك، فبضعة معطيات ليست قليلة الاهمية، الا انها تجمع في طياتها ودلالاتها اكثر من علامة مثيرة للاستفهام على الاقل:
اولها، ما يشاع في دوائر مغلقة بعيداً من الاعلام لدى اوساط نيابية تقترح، في خطوة مقوِّضة للمادة 44 من الدستور، اعلان انتخاب برّي رئيساً للمجلس بالتزكية. لأن لا مرشح سواه، وتفادياً لارتداد الاقتراع سياسياً باحتمال انتقاله الى دورة ثالثة، وبغية الايحاء بحد ادنى من وحدة السلطة الاشتراعية، يصير الى التزكية.
خلافاً للدستور، ثمة مَن يقترح اعلان فوز برّي بالتزكية


المعطى المرافق لهذه «الاشاعة» ـ مع ان لا اشاعة باطلة او خاوية ـ رفض برّي الاقتراح لمخالفته المادة 44 التي تنص على انتخاب الرئيس، ثم نائبه، ثم المفوضين الثلاثة، ثم امينيْ السر، بـ»الاقتراع السري» تبعاً للدورات الثلاث ونصابي الاكثرية المطلقة فالاكثرية النسبية. لم يحدث من قبل ان طُرح اقتراح كهذا، مع ان عشرات الحالات على مر ثمانية عقود في الحياة البرلمانية اللبنانية منذ الاستقلال، فيها مرشح واحد وحيد، ان صار الى التخلي عن الاقتراع السري واعلان فوزه بالتزكية. كذلك حصل في الدورات الست منذ عام 1992 مع برّي، مرشحاً وحيداً يفوز بالاقتراع السري.
ثانيها، دونما ان يكون على صلة مباشرة، بيد انه يدلف بطريقة ما الى انتخابات رئاسة المجلس، عبر ربط الاستحقاقات الدستورية بعضها ببعض، عفواً او عمّداً، ومحاولة كل من الافرقاء جمع اكبر كمّ من اوراق التأثير والضغط والتفاوض، تحدثت معلومات، عشية الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء في 20 ايار، عن حمل المدير العام لرئاسة الجمهورية انطوان شقير الى اجتماعٍ في السرايا مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والامين العام لمجلس الوزراء محمود مكية، اقتراحاً يقضي بادخال بندين مستجدين على جدول اعمال الجلسة الاخيرة، هما اقالة قائد الجيش العماد جوزف عون وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. للفور رفض ميقاتي الاقتراح، وتوجّه الى محدثه بالقول ان طرحه في جلسة قصر بعبدا سيحمله والوزراء على مغادرة القاعة ورفع الجلسة. اذذاك طوي الاقتراح.
عشية كل جلسة لمجلس الوزراء، ينسّق شقير ومكية في وضع جدول الاعمال بما يتوافق عليه رئيسا الجمهورية والحكومة. في الغالب يكون هاتفياً. سرية الموضوع حتمت التحدث المباشر. ما يرافق هذه المعلومات ان الموحي بالاقتراح هذا هو رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الذي يخوض اكثر من مواجهة على اكثر من مسار، وجهاً لوجه مع اكثر من خصم وعدو سياسي. اولى اولوياته خروج سلامة من حاكمية مصرف لبنان قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية، كانتصار سياسي ضخم، يقف في المقلب الآخر منه برّي. ثانيتها افقاد قائد الجيش حظوظه، الخارجية قبل المحلية، في الوصول الى رئاسة الجمهورية باخراجه من منصبه.
الواضح ان ثمار المواجهات هذه لن تبصر النور سوى من خلال مجلس النواب الجديد، في انتخابات رئاسة البرلمان ونيابتها، ثم في الحكومة المزمع تأليفها، وصولاً الى انتخابات الرئاسة الاولى.
ثالثها، انتخاب نائب رئيس المجلس تتساقط تباعاً اوراق مرشحيه: غسان حاصباني كأحد افضل الوجوه الرصينة يتقدم بها حزب القوات اللبنانية، يرفضها الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وحلفاؤه. الياس بوصعب وجورج عطالله مرشحا التيار، كلٌ ببروفيل مناقض للآخر، يصطدمان كذلك باكثر من اعتراض على ترشيح اي منهما. يفضّل برّي الاول مجرّباً ليونته، ويميل باسيل الى الثاني كوجه استفزازي. بيد ان حظوظ اي منهما رهن موافقة الثنائي الشيعي. في نهاية المطاف انتخاب بوصعب ينجم عن مقايضة صعبة، موصدة الابواب حتى الآن على الاقل، بندها الاول نقل الاصوات الـ20 للتيار كي تصب في انتخاب برّي بداية. ثم يُنتخب نائبه بالاستطراد. يبقى مرشح اخير هو نائب عكار سجيع عطية الذي يمثل حلاً وسطاً بين الافرقاء المتناحرين على المنصب، منطلقاً من 11 نائباً شمالياً يؤيدونه، بينما نصحه محيط برّي برفع رقمه الى 20 صوتاً تسهيلاً لنجاحه، بين طرفين مسيحيين يمثلان الكتلتين الكبريين في البرلمان الجديد، غير ان اياً منهما عاجزة بتحالفاتها عن ضمان فوز مرشحها.