وسط غابة بعيدة عن أي بشري، وفي غرفة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، عاشت ريتا سبع سنوات من الجحيم. في السابعة عشرة من عمرها، تزوجت رجلًا يكبرها بـ 30 عامًا، وظنّت أنها نجت من العنف الذي تعرضت له في منزل والديها منذ نعومة أظافرها، لتجد نفسها أمام مسلسل جديد من العنف طالها وابنتيها اللتين أنجبتهما منه.بعد سنوات من المعاناة انتفضت ريتا على واقعها طمعاً في إنقاذ طفلتيها، وتمكنت وبمساعدة إحدى المحاميات المتطوعات من استصدار قرار حماية من قاضي الأمور المستعجلة. لكن - ويا فرحة ما تمّت - رغم ثبوت تعنيف الوالد وخوف الطفلتين الظاهر منه، أصدر القاضي قرار مشاهدة للوالد، من دون أن يأخذ في الاعتبار الحالة النفسية للطفلتين ووالدتهما، ومن دون أن يستشير على الأقل اختصاصيين في الأمر، معتبرًا بقراره هذا أن الشرع يضمن للوالد حق رؤية الأولاد بغضّ النظر عن مضمون قرار الحماية. والمفارقة أنه في أول لقاء مشاهدة، تم بحضور موظف المحكمة، كانت ردة فعل الطفلتين مؤلمة، لجهة هلعهما ورفضهما لقاء أبيهما، ما جعل الأم ترفض إنفاذ القرار لاحقًا، مهما كانت العقبات.
وفي السياق عينه، تمكّنت سهى، وهي أم لأربعة أولاد، من الحصول على قرار حماية جرّاء تعرضها للعنف الجسدي والمعنوي من قبل زوجها. إلا أنها لم تستطع استثمار هذا القرار وترجمته على أرض الواقع، بعد إدراكها أنه لا توجد آليات لضمان تنفيذه عبر تأمين مساحة داعمة وآمنة لها ولأولادها مما يمكن التعرّض له من المجتمع. ورغم أنها مستقلة ماديًا كونها تعمل، إلا أنّها لم تتمكن من تحرير نفسها من سطوة معّنفها فقررت العودة إلى منزلها والاستمرار معه في حياتها المحفوفة بالمخاطر.
هكذا، ورغم أهمية قانون العنف الأسري الذي أُقرّ في 2014، إلا أنه ظلّ عاجزًا عن تحقيق الأهداف المرسومة له، في غياب نيابة عامة أسرية تضمن تطبيق هذا القانون كونها المخوّلة، عبر جهازها المؤهل والمختص، حماية العائلة بكل أفرادها وتأمين المساحة الآمنة لها، ورعاية آليات تنفيذه، خاصة لجهة احترام حقوق الطفل التي تنتهك خلال تنفيذ بعض الأحكام المرتبطة به (حضانة\مشاهدة). وهذه الانتهاكات قد تكون أحيانًا من قبل من هم مولجون بحمايتها خلال تنفيذ قرارات المحاكم الشرعية.
فمشهد توقيف والد سامر أمام عينيه ما يزال محفوراّ في ذاكرته ووجدانه المهشّم. الطفل الذي لم يكن يتجاوز الـ 11 عامًا حينها، والذي كان من حق أمه في الحضانة رفض العيش معها مختارًا البقاء مع والده، وكان يرفض في كل زيارة للأب، إنفاذًا لحكم المشاهدة، العودة الى أمه. الأمر الذي دفع بالأم الى استصدار قرار من دائرة التنفيذ بحبس الوالد بذريعة عدم تسليم الطفل لأمه، في حين أن الطفل هو من كان يرفض العودة إليها. ومن دون الأخذ في الاعتبار حالة الطفل النفسية تمّ توقيف الأب أمام عينَيه، وسُلّم الى أمه داخل المخفر؛ وهكذا بقيت الأم تهدد ابنها بتوقيف والده في كل مرة يرفض العودة إليها.
من هنا السؤال: كيف يسمح لأحد الأبوين باستخدام الطفل كأداة للابتزاز ضد الطرف الآخر وتجاهل الحالة النفسية للطفل في مثل هكذا حالات؟
ومن هنا أهمية إنشاء نيابة عامة مختصة في المسائل الأسرية، وقادرة على تحديد مصلحة الطفل الفضلى، من دون السماح بخدش براءته بتجاوزات قد تتحوّل إلى ندوب عميقة ترسخ في وجدانه طويلًا.
من خلال ما طرح أعلاه يبدو واضحًا أن لنظام الأحوال الشخصية الحالي تداعياته السلبية على القضايا الأسرية وعلى آليات تنفيذ القرارات المتعلقة به الصادرة عن القضاء العدلي، سيّما بوجود تداخل بين الشرعي والمدني وغياب أي دور رقابي لضمان حماية أفراد العائلة وبشكل خاص الأولاد. من هنا جاءت فكرة طرح مشروع نيابة عامة أسرية على رأسها نائب عام متخصص بشؤون الأسرة يعاونه محامون عامّون متخصصون، تقسم المهام بينهم وفًقا لخبراتهم بين قضايا جزائية كملفات العنف الأسري وتداعياتها، وقضايا مالية كمواضيع تنفيذ قرارات النفقة، وقضايا عائلية (الحضانة والوصاية والمشاهدة وما ينتج منها).

ضابطة أسرية خارج الاطار «العسكري»
لا يمكن الحديث عن إنشاء نيابة عامة أسريّة من دون ربط ذلك بإنشاء ضابطة عدلية أسرية، إذ يستحيل على الأولى القيام بمهامها دون مساعدة هذا الجهاز الذي ينفذ إشاراتها وقراراتها ويعمل تحت إشراف وزارة الداخلية ووزارة الشوؤن الاجتماعية.
وإذا كانت الضابطة العدلية في قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني هي التي تتولّى التحقيق الأولي في الجرائم وتقوم بجمع المعلومات اللازمة عنها، والبحث عن مرتكبيها وضبطهم وإحالتهم إلى النيابة العامة التي بدورها تحيلهم الى المرجع القضائي المختص، فإن الضابطة العدلية الأسرية بإعتبارها الأداة التنفيذية للنيابة العامة الأسرية، لا يمكن أن تقوم بمهامها إلا عبر عناصر مؤهلة ومدرّبة على التدخل في النزاعات الأسرية، من خلال تقديم التوجيهات اللازمة لحماية كل أفراد الأسرة، شرط أن يكون هؤلاء العناصر مؤهلين ومدرّبين على كيفية التدخل مع مراعاة الوضع النفسي والاجتماعي لأفراد الأسرة وبشكل خاص الأطفال.
أضف إلى ذلك، وحرصًا على حماية حقوق الطفل فإنه ينبغي على عناصر الضابطة العدلية الأسرية، عند تنفيذ القرارات الصادرة عن المحاكم الدينية (مشاهدة - حضانة) والمتعلّقة بتسليم القاصرين، ارتداء اللباس المدني بدلًا من البزّة العسكرية، لما يمكن أن يترك هذا المظهر من ندوب في نفسية الطفل يصعب إزالتها، كما ينبغي استحداث مراكز اجتماعية تابعة للضابطة العدلية الأسرية خارج الأسوار الأمنية (مخافر، فصائل..)، تكون معّدة ومجهّزة بكادر بشريّ موهّل للتعاطي مع مختلف الحالات، ويتضّمن مندوبًا اجتماعيًا على الأقل.
تجدر الإشارة إلى أنّه، رغم عدم وجود ضابطة عدلية أسرية حتى اللحظة في لبنان، إلّا أن قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة، قد أشار في مادته الخامسة إلى ضرورة إنشاء "قطعة" متخصصة بجرائم العنف الأسري لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، تغطي كافة الأراضي اللبنانية، ويراعى في تشكيلها وجود عناصر من الإناث، وأن يكون عناصرها مدربين تدريبًا كافيًا على حلّ النزاعات والتوجيه الاجتماعي. وكذلك نصت المادة عينها على أن التحقيق الذي يجرى من قبل هذه "القطعة" يكون بوجود مساعدين اجتماعيين عارفين بالشؤون الأسرية وحلّ النزاعات، يتمّ اختيارهم من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية.
كيف يسمح لأحد الأبوين باستخدام الطفل كأداة للابتزاز ضد الطرف الآخر وتجاهل الحالة النفسية للطفل؟


وفي السياق عينه تضمّن التعميم الصادر عن النيابة العامة التمييزية (76/ص/2018) الطلب من قضاة النيابة العامة تكليف الضابطة العدلية، لدى قيامها بتنفيذ قرارات قضائية تتعلّق بحضانة وتسليم الأطفال والقاصرين، الاستعانة بمندوب اجتماعي وتدوين ذلك في المخفر. ولكن أين نحن من تطبيق التعميم أو المادة الخامسة من القانون المذكور أعلاه؟
ففي ظلّ الأزمة الحالية بالكاد تستطيع قوى الأمن الداخلي القيام بمهامها العادية - التقليدية، وهو عجز ينكشف يومًا بعد يوم، إذ تشهد هذه المؤسسة شحًّا واضحًا في العديد والعتاد، سيّما بعد تسرّب عدد لا يستهان به من عناصرها. ومهما يكن، فإن التجربة أكدت أن الضابطة العدلية لم تفلح في حلّ النزاعات الناشئة عن العنف الأسري، كذلك في موضوع تسليم الأولاد، من هنا أهمية إنشاء ضابطة عدلية أسرية مختصة ومؤهّلة، تخلع عنها تمامًا الثياب العسكرية التقليدية!



بطاقة تعريف | «ألف باء القانون»
مجموعة أصدقاء وزملاء عمل جمعتهم ساحات النضال القانوني والتربوي والاجتماعي والثقافي والسياسي والتنموي. العمل على بناء المجتمع من خلال استهداف وعي الفرد ومحو أميته القانونية هو الهدف الاساسي لها. لأن التمكين القانوني للفرد يحميه من الانتهاكات اليومية التي يتعرض لها سواء كان لبنانيا او مقيما على الارض اللبنانية.
انطلقت "الف باء القانون" في عملها من خلال ورش توعية قانونية في المدارس والمخيمات. وتقوم الجمعية بتنفيذ برنامج عملها من خلال متطوعين مؤمنين بفكرتها بدون أي تمويل خارجي من أي جهة كانت.


محاكم ونيابات عامة أسرية على امتداد الدول العربية
على عكس لبنان اتجهت أغلب الدول العربية إلى استحداث محاكم مختصّة للنظـر بكافة المسائل الأسرية والفصـل فيهـا، وهنـا يكـون للنيابـة العامة دور أساس ومحوري فيها.
أول من أنشأ محكمة الأسرة في الدول العربية هي جمهورية مصر العربية، إذ صدر قانون عام 2004 أدخل العديد من الإصلاحات من بينها استعانة المحكمة بخبيرين أحدهما نفسي والآخر اجتماعي في بعض القضايا المحددة قانونًا، على أن يكون أحدهما على الأقل من النساء. كما تمّ إنشاء نيابة متخصصة في شؤون الأسرة تتوّلى المهام المخوّلة للنيابة العامة أمام محاكم الأسرة ودوائرها الاستئنافية.


- في منطقة الخليج، قامت دولة الكويت، على سبيل المثال، بإنشاء محكمة الأسرة سنة 2015، وإنشاء نيابة متخصصة بشؤون الأسرة تتولّى المهام الموكلة للنيابة العامة في قضايا الأحوال الشخصية، وينشأ بكل محافظة مركز يلحق بمحكمة الأسرة، يتولى تسوية المنازعات الأسرية وحماية أفراد الأسرة من العنف والإيذاء الذي يقع من أحدهم على أفرادها الآخرين، ويكون اللجوء إلى المركز بدون رسوم. وتنشأ أيضًا بمقر كل محكمة، إدارة خاصة لتنفيذ الأحكام، ومركز أو أكثر يخصص لتسليم "المَحْضون" ورؤيته.
- في قطر صدر عام 2006 قانون الأسرة القطري، بحيث تضمن المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية، ومنها ذات صبغة مالية (أحكام المهر، قواعد الميراث، إنفاق)، وأخرى غير مالية كإبرام عقود الزواج والالتزامات الشخصية بين الزوجين، والنسب والحضانة؛ إضافة إلى تنفيذ هذه الأحكام.
كذلك وحفاظًا على راحة المتقاضين وخصوصية القضايا الأسرية تمّ نقل مقر محكمة الأسرة عام 2018 إلى مبنى خاص ومستقلّ بها.
- في السعودية تمّ إنشاء دوائر متخصصة في القضايا الأسرية في فروع النيابة العامة، حفاظًا على سريتها من جهة، ولتقديم ما يلزم لبعضها من المعونة الاجتماعية في الإرشاد والإصلاح من جهة أخرى.
- أما المغرب فقد أولى اهتمامًا كبيرًا للنيابة العامة إذ اعتبرها طرفًا أصليًا في جميع قضايا الأسرة، حيث أخذ بنظام تدخّل النيابة العامة في هذه القضايا. وحفاظًا على استقرار معاملاتها، أعطاها دور التقاضي إما مُدّعِية أو مُدَّعى عليها، بالإضافة إلى حضورها في الجلسات، وبالتالي ممارسة كل ما يمارسه الخصوم في الدعاوى من تقديم للحجج، والمستندات، كذلك استخدام كافة وسائل الطعن الممنوحة للأطراف.
هذه الأمثلة ليست حصرية، فالعديد من الدول العربية الأخرى اعتمدت نظام محكمة الأسرة والنيابة العامة الأسرية بالاضافة إلى الضابطة الأسرية (الشرطة الأسرية في العراق والسعودية) المولجة تنفيذ الأحكام والقرارات. بناء عليه لا بد للمشرع اللبناني والعربي من خلق التكامل بين قانون موحّد للأحوال الشخصية ومحكمة أسرة تطبق أحكام هذا القانون بمساعدة نيابة عامة أسرية وضابطة مختصة مع الأخذ في الاعتبار التوجيه الأسري.